الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموافقات ***
إِنَّ الشَّرِيعَةَ كَمَا أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَجَارِيَةٌ عَلَى مُخْتَلِفَاتِ أَحْوَالِهِمْ؛ فَهِيَ عَامَّةٌ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَالَمِ الْغَيْبِ وَعَالَمِ الشَّهَادَةِ مِنْ جِهَةِ كُلِّ مُكَلَّفٍ؛ فَإِلَيْهَا نَرُدُّ كُلَّ مَا جَاءَنَا مِنْ جِهَةِ الْبَاطِنِ، كَمَا نَرُدُّ إِلَيْهَا كُلَّ مَا فِي الظَّاهِرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَشْيَاءُ: مِنْهَا: مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا مِنْ تَرْكِ اعْتِبَارِ الْخَوَارِقِ إِلَّا مَعَ مُوَافَقَةِ ظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّرِيعَةَ حَاكِمَةٌ لَا مَحْكُومٌ عَلَيْهَا، فَلَوْ كَانَ مَا يَقَعُ مِنَ الْخَوَارِقِ وَالْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ حَاكِمًا عَلَيْهَا بِتَخْصِيصِ عُمُومٍ، أَوْ تَقْيِيدِ إِطْلَاقٍ، أَوْ تَأْوِيلِ ظَاهِرٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لَكَانَ غَيْرُهَا حَاكِمًا عَلَيْهَا، وَصَارَتْ هِيَ مَحْكُومًا عَلَيْهَا بِغَيْرِهَا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ؛ فَكَذَلِكَ مَا يَلْزَمُ عَنْهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مُخَالَفَةَ الْخَوَارِقِ لِلشَّرِيعَةِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِهَا فِي نَفْسِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ فِي ظَوَاهِرِهَا كَالْكَرَامَاتِ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، بَلْ أَعْمَالًا مِنْ أَعْمَالِ الشَّيْطَانِ؛ كَمَا حَكَى عِيَاضٌ عَنِ الْفَقِيهِ أَبِي مَيْسَرَةِ الْمَالِكِيِّ أَنَّهُ كَانَ لَيْلَةً بِمِحْرَابِهِ يُصَلِّي وَيَدْعُو وَيَتَضَرَّعُ، وَقَدْ وَجَدَ رِقَّةً، فَإِذَا الْمِحْرَابُ قَدْ انْشَقَّ وَخَرَجَ مِنْهُ نُورٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ بَدَا لَهُ وَجْهٌ كَالْقَمَرِ، وَقَالَ لَهُ: تَمَلَّأْ مِنْ وَجْهِي يَا أَبَا مَيْسَرَةَ؛ فَأَنَا رَبُّكَ الْأَعْلَى؛ فَبَصَقَ فِيهِ وَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ يَا لَعِينُ عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللَّهِ. وَكَمَا يُحْكَى عَنْ عَبْدِ الْقَادِرِ الْكِيلَانِيِّ أَنَّهُ عَطِشَ عَطَشًا شَدِيدًا؛ فَإِذَا سَحَابَةٌ قَدْ أَقْبَلَتْ وَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِ شِبْهَ الرَّذَاذِ حَتَّى شَرِبَ، ثُمَّ نُودِيَ مِنْ سَحَابَةٍ: يَا فُلَانُ! أَنَا رَبُّكَ وَقَدْ أَحْلَلْتُ لَكَ الْمُحَرَّمَاتِ.. فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ يَا لَعِينُ.. فَاضْمَحَلَّتِ السَّحَابَةُ، وَقِيلَ لَهُ: بِمَ عَرَفْتَ أَنَّهُ إِبْلِيسُ؟ قَالَ: بِقَوْلِه: قَدْ أَحْلَلْتُ لَكَ الْمُحْرِمَاتِ. هَذَا وَأَشْبَاهُهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الشَّرْعُ حَكَمًا فِيهَا لَمَا عُرِفَ أَنَّهَا شَيْطَانِيَّةٌ. وَقَدْ نَزَعَتْ إِلَى هَذَا الْمَنْزَعِ فِي ابْتِدَاءِ الْوَحَيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ زَوْجُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؛ فَإِنَّهَا قَالَتْ لَهُ: «أَيِ ابْنَ عَمِّ، أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِكَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ إِذَا جَاءَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ.. قَالَتْ: فَإِذَا جَاءَكَ فَأَخْبِرْنِي بِهِ.. فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَهَا؛ فَقَالَتْ: قُمْ يَا بْنَ عَمِّ؛ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِيَ الْيُسْرَى. فَجَلَسَ، ثُمَّ قَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.. ثُمَّ حَوَّلَتْهُ إِلَى فَخِذِهَا الْيُمْنَى، ثُمَّ إِلَى حِجْرِهَا، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ تَقُولُ: هَلْ تَرَاهُ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ.. قَالَ الرَّاوِي: فَتَحَسَّرَتْ، وَأَلْقَتْ خِمَارَهَا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي حِجْرِهَا، ثُمَّ قَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: لَا. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهَا أَدْخَلَتْهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ دِرْعِهَا؛ فَذَهَبَ عِنْدَ ذَلِكَ.. فَقَالَتْ: يَا ابْنَ عَمِّ! اثْبُتْ وَأَبْشِرْ؛ فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَلَكٌ، مَا هَذَا بِشَيْطَانٍ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ ثَمَّ مَدَارِكَ أُخَرَ يُخْتَصُّ بِهَا الْوَلِيُّ، لَا يَفْتَقِرُ بِهَا إِلَى النَّظَرِ الشَّرْعِيِّ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إِنْ كَانَ كَمَا قُلْتُ عَلَى فَرْضِ تَسْلِيمِهِ؛ فَتِلْكَ الْمَدَارِكُ مِنْ جُمْلَةِ الْكَرَامَاتِ وَالْخَوَارِقِ؛ إِذْ لَا يَخْتَصُّ بِهَا إِلَّا مَنْ كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الْخَوَارِقِ الْمُشَاهَدَةِ، فَلَا بُدَّ إِذًا مِنْ حُكْمٍ يَحْكُمُ بِصِحَّتِهَا، وَشَاهِدٍ يَشْهَدُ لَهَا؛ وَإِذْ ذَاكَ يَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَلَا يُكْتَفَى فِي ذَلِكَ بِدَعْوَى الْوِجْدَانِ، فَإِنَّ الْوِجْدَانَ مِنْ حَيْثُ هُوَ وِجْدَانٌ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى صِحَّتِهِ وَلَا فَسَادِهِ؛ لِأَنَّ الْآلَامَ وَاللَّذَّاتِ مِنَ الْمَوَاجِدِ الَّتِي لَا تُنْكَرُ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّتِهَا أَوْ فَسَادِهَا شَرْعًا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَى الِانْفِكَاكِ عَنْهَا، فَالْغَضَبُ مَثَلًا إِذَا هَاجَ بِالْإِنْسَانِ أَمْرٌ لَا يُنْكَرُ كَالْمَوَاجِدِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، وَقَدْ يَكُونُ مَحْمُودًا إِذَا كَانَ غَضَبًا لِلَّهِ، وَمَذْمُومًا إِذَا كَانَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهَا إِلَّا النَّظَرُ الشَّرْعِيُّ؛ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْغَضَبُ قَدْ أَدْرَكَ صَاحِبُهُ أَنَّهُ مَحْمُودٌ لَا مَذْمُومٌ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ شَرْعِيٍّ؛ لِأَنَّ الْحَمْدَ وَالذَّمَّ رَاجِعَانِ إِلَى الشَّرْعِ لَا إِلَى الْعَقْلِ، فَمِنْ أَيْنَ أَدْرَكَ أَنَّهُ مَحْمُودٌ شَرْعًا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْرِكَهُ كَذَلِكَ بِغَيْرِ الشَّرْعِ أَصْلًا، وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا أَنْ يَنْسُبَ تَمْيِيزَهُ إِلَى الْمُرَبِّي وَالْمُعَلِّمِ؛ لِأَنَّ الْبَحْثَ جَارٍ فِيهِ أَيْضًا. وَإِنَّمَا الَّذِي يُشْكِلُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْخَوَارِقَ لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ عَلَى كَسْبِهَا وَلَا عَلَى دَفْعِهَا؛ إِذْ هِيَ مَوَاهِبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَخْتَصُّ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَإِذَا وَرَدَتْ عَلَى صَاحِبِهَا؛ فَلَا حُكْمَ فِيهَا لِلشَّرْعِ وَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّهَا غَيْرُ مُوَافِقَةٍ لَهُ؛ كَوُرُودِ الْآلَامِ وَالْأَوْجَاعِ عَلَى الْإِنْسَانِ بَغْتَةً، أَوْ وُرُودِ الْأَفْرَاحِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اكْتِسَابٍ، فَكَمَا لَا تُوصَفُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ شَرْعًا، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ؛ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا، بَلْ أَشْبَهُ شَيْءٌ بِهَا الْإِغْمَاءُ أَوِ الْجُنُونُ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ، فَلَا حُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِهِ وَإِنْ فَرَضْنَا لُحُوقَ الضَّرَرِ بِهِ عَلَى الْغَيْرِ كَمَا إِذَا أَتْلَفَ الْمَجْنُونُ مَالًا أَوْ قَتَلَ نَفْسًا أَوْ شَرِبَ خَمْرًا فِي حَالِ جُنُونِهِ، أَلَا تَرَى مَا يُحْكَى عَنْ جُمْلَةٍ مِنْهُمْ فِي اسْتِغْرَاقِهِمْ فِي الْأَحْوَالِ حَتَّى تَمْضِيَ عَلَيْهِمْ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَيَقَعُ مِنْهُمُ الْوَعْدُ فَيُؤْخَذُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فِي الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُنَازَلَاتِ؛ فَلَا يَفُونَ، وَيُكَاشِفُونَ بِأَحْوَالِ الْخَلْقِ بِحَيْثُ يَطَّلِعُونَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ إِلَى مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَهَذَا وَمَا كَانَ مِثْلُهُ إِذَا كَانَ وَاقِعًا مِنْهُمْ وَمَنْقُولًا عَنْهُمْ، وَهُوَ دَاخِلٌ عَلَيْهِمْ شَاءُوا أَمْ أَبَوْا، فَكَيْفَ يُنْكَرُ فِي نَفْسِهِ أَوْ يُعَدُّ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ كَافٍ فِي إِثْبَاتِ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَا اعْتُرِضَ بِهِ لَا اعْتِرَاضَ بِهِ؛ فَإِنَّ الْخَوَارِقَ وَإِنْ كَانَتْ لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ فِي كَسْبِهَا وَلَا دَفْعِهَا؛ فَلِقُدْرَتِهِ تَعَلُّقٌ بِأَسْبَابِ هَذِهِ الْمُسَبَّبَاتِ.. وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْأَسْبَابَ هِيَ الَّتِي خُوطِبَ الْمُكَلَّفُ بِهَا أَمْرًا أَوْ نَهْيًا، وَمُسَبِّبَاتُهَا خَلْقٌ لِلَّهِ؛ فَالْخَوَارِقُ مِنْ جُمْلَتِهَا. وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ مَا نَشَأَ عَنِ الْأَسْبَابِ مِنَ الْمُسَبَّبَاتِ؛ فَمَنْسُوبٌ إِلَى الْمُكَلَّفِ حُكْمُهُ مِنْ جِهَةِ التَّسَبُّبِ؛ لِأَجْلِ أَنَّ عَادَةَ اللَّهِ فِي الْمُسَبَّبَاتِ أَنْ تَكُونَ عَلَى وِزَانِ الْأَسْبَابِ فِي الِاسْتِقَامَةِ وَالِاعْوِجَاجِ، وَالِاعْتِدَالِ وَالِانْحِرَافِ؛ فَالْخَوَارِقُ مُسَبِّبَاتٌ عَنِ الْأَسْبَابِ التَّكْلِيفِيَّةِ، فَبِقَدْرِ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ فِي الْأَعْمَالِ وَتَصْفِيَتِهَا مِنْ شَوَائِبِ الْأَكْدَارِ وَغُيُومِ الْأَهْوَاءِ تَكُونُ الْخَارِقَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ؛ فَكَمَا أَنَّهُ يُعْرَفُ مِنْ نَتَائِجِ الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ صَوَابُ تِلْكَ الْأَعْمَالِ أَوْ عَدَمِ صَوَابِهَا؛ كَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطُّور: 16]. وَقَالَ: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [يُونُسَ: 52]. «إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا». وَهُوَ عَامٌّ فِي الْجَزَاءِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ، وَفُرُوعُ الْفِقْهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ شَاهِدَةٌ هُنَا كَشَهَادَةِ الْعَادَاتِ؛ فَالْمَوْضُوعُ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَمَا ظَهَرَ فِي الْخَارِقَةِ مِنِ اسْتِقَامَةٍ أَوِ اعْوِجَاجٍ؛ فَمَنْسُوبٌ إِلَى الرِّيَاضَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالنَّتَائِجُ تَتْبَعُ الْمُقْدِمَاتِ بِلَا شَكٍّ؛ فَصَارَ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ مُتَعَلِّقًا بِالْخَوَارِقِ مِنْ جِهَةِ مُقَدِّمَاتِهَا، فَلَا تَسْلَمُ لِصَاحِبِهَا، وَإِذْ ذَاكَ لَا تَخْرُجُ عَنِ النَّظَرِ الشَّرْعِيِّ بِخِلَافِ الْمَرَضِ وَالْجُنُونِ وَأَشْبَاهِهِمَا مِمَّا لَا سَبَبَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْمُكَلَّفِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْمُكَلَّفَ تَسَبَّبَ فِي تَحْصِيلِهِ؛ لَكَانَ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ وَلَتَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ إِلَيْهِ؛ كَالشُّكْرِ وَنَحْوِهِ؛ فَحَصَلَ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ الشَّرْعَ حَاكِمٌ عَلَى الْخَوَارِقِ وَغَيْرِهَا، لَا يَخْرُجُ عَنْ حَكَمِهِ شَيْءٌ مِنْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ كُلَّ خَارِقَةٍ حَدَثَتْ أَوْ تَحْدُثُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يَصِحُّ رَدُّهَا وَلَا قَبُولُهَا إِلَّا بَعْدَ عَرْضِهَا عَلَى أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنْ سَاغَتْ هُنَاكَ فَهِيَ صَحِيحَةٌ مَقْبُولَةٌ فِي مَوْضِعِهَا، وَإِلَّا لَمْ تُقْبَلْ إِلَّا الْخَوَارِقُ الصَّادِرَةُ عَلَى أَيْدِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ؛ فَإِنَّهُ لَا نَظَرَ فِيهَا لِأَحَدٍ لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ عَلَى الصِّحَّةِ قَطْعًا، فَلَا يُمْكِنُ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَلِأَجْلِ هَذَا حَكَمَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَبْحِ وَلَدِهِ بِمُقْتَضَى رُؤْيَاهُ، وَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصَّافَّات: 102]، وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِيمَا انْخَرَقَ مِنَ الْعَادَاتِ عَلَى يَدِ غَيْرِ الْمَعْصُومِ. وَبَيَانُ عَرْضِهَا أَنْ تُفْرَضَ الْخَارِقَةُ وَارِدَةً مِنْ مَجَارِي الْعَادَاتِ، فَإِنْ سَاغَ الْعَمَلُ بِهَا عَادَةً وَكَسْبًا؛ سَاغَتْ فِي نَفْسِهَا، وَإِلَّا فَلَا؛ كَالرَّجُلِ يُكَاشِفُ بِامْرَأَةٍ أَوْ عَوْرَةٍ بِحَيْثُ اطَّلَعَ مِنْهَا عَلَى مَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا لَهُ، أَوْ رَأَى أَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ بَيْتَهُ وَهُوَ يُجَامِعُ زَوْجَتَهُ وَيَرَاهُ عَلَيْهَا، أَوْ يُكَاشِفُ بِمَوْلُودٍ فِي بَطْنِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ بِحَيْثُ يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى بَشَرَتِهَا أَوْ شَيْءٍ مِنْ أَعْضَائِهَا الَّتِي لَا يَسُوغُ النَّظَرُ إِلَيْهَا فِي الْحِسِّ، أَوْ يَسْمَعُ نِدَاءً يُحِسُّ فِيهِ بِالصَّوْتِ وَالْحَرْفِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا رَبُّكَ، أَوْ يَرَى صُورَةً مُكَيَّفَةً مُقَدَّرَةً تَقُولُ لَهُ: أَنَا رَبُّكَ، أَوْ يَرَى وَيَسْمَعُ مَنْ يَقُولُ لَهُ: قَدْ أَحْلَلْتُ لَكَ الْمُحْرِمَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَقْبَلُهَا الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ عَلَى حَالٍ، وَيُقَاسُ عَلَى هَذَا مَا سِوَاهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
لَمَّا كَانَ التَّكْلِيفُ مَبْنِيًّا عَلَى اسْتِقْرَاءِ عَوَائِدِ الْمُكَلَّفِينَ؛ وَجَبَ أَنْ يُنْظَرَ فِي أَحْكَامِ الْعَوَائِدِ لِمَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى دُخُولِ الْمُكَلَّفِ تَحْتَ حُكْمِ التَّكْلِيفِ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَجَارِيَ الْعَادَاتِ فِي الْوُجُودِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ لَا مَظْنُونٌ، وَأَعْنِي فِي الْكُلِّيَّاتِ لَا فِي خُصُوصِ الْجُزْئِيَّاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّرَائِعَ بِالِاسْتِقْرَاءِ إِنَّمَا جِيءَ بِهَا عَلَى ذَلِكَ، وَلَتُعْتَبَرُ بِشَرِيعَتِنَا؛ فَإِنَّ التَّكَالِيفَ الْكُلِّيَّةَ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يُكَلَّفُ مِنَ الْخَلْقِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى مِقْدَارٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى تَرْتِيبٍ وَاحِدٍ، لَا اخْتِلَافَ فِيهِ بِحَسَبِ مُتَقَدِّمٍ وَلَا مُتَأَخِّرٍ، وَذَلِكَ وَاضِحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَوْضُوعَاتِ التَّكَالِيفِ وَهِيَ أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ كَذَلِكَ، وَأَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ إِنَّمَا تَجْرِي عَلَى تَرْتِيبِهَا إِذَا كَانَ الْوُجُودُ بَاقِيًا عَلَى تَرْتِيبِهِ، وَلَوِ اخْتَلَفَتِ الْعَوَائِدُ فِي الْمَوْجُودَاتِ؛ لَاقْتَضَى ذَلِكَ اخْتِلَافَ التَّشْرِيعِ وَاخْتِلَافَ التَّرْتِيبِ وَاخْتِلَافَ الْخِطَابِ؛ فَلَا تَكُونُ الشَّرِيعَةُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِخْبَارَ الشَّرْعِيَّ قَدْ جَاءَ بِأَحْوَالِ هَذَا الْوُجُودِ عَلَى أَنَّهَا دَائِمَةٌ غَيْرُ مُخْتَلِفَةٍ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ؛ كَالْإِخْبَارِ عَنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالتَّصَارِيفِ وَالْأَحْوَالِ، وَأَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ لَا تَبْدِيلَ لَهَا، وَأَنَّ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، كَمَا جَاءَ بِإِلْزَامِ الشَّرَائِعِ عَلَى ذَلِكَ الْوِزَانِ أَيْضًا، وَالْخَبَرُ مِنَ الصَّادِقِ لَا يَكُونُ بِخِلَافِ مُخْبَرِهِ بِحَالٍ؛ فَإِنَّ الْخِلَافَ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ اطِّرَادَ الْعَادَاتِ مَعْلُومٌ؛ لَمَا عُرِفَ الدِّينُ مِنْ أَصْلِهِ فَضْلًا عَنْ تَعَرُّفِ فُرُوعِهِ؛ لِأَنَّ الدِّينَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا عِنْدَ الِاعْتِرَافِ بِالنُّبُوَّةِ وَلَا سَبِيلَ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِهَا إِلَّا بِوَاسِطَةِ الْمُعْجِزَةِ، وَلَا مَعْنَى لِلْمُعْجِزَةِ إِلَّا أَنَّهَا فِعْلٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، وَلَا يَحْصُلُ فِعْلٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ إِلَّا بَعْدَ تَقْرِيرِ اطِّرَادِ الْعَادَةِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ كَمَا اطَّرَدَتْ فِي الْمَاضِي، وَلَا مَعْنَى لِلْعَادَةِ إِلَّا أَنَّ الْفِعْلَ الْمَفْرُوضَ لَوْ قُدِّرَ وُقُوعُهُ غَيْرَ مُقَارِنٍ لِلتَّحَدِّي لَمْ يَقَعْ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْلُومِ فِي أَمْثَالِهِ؛ فَإِذَا وَقَعَ مُقْتَرِنًا بِالدَّعْوَةِ خَارِقًا لِلْعَادَةِ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ كَذَلِكَ مُخَالِفًا لِمَا اطَّرَدَ إِلَّا وَالدَّاعِي صَادِقٌ، فَلَوْ كَانَتِ الْعَادَةُ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ، لَمَا حَصَلَ الْعِلْمُ بِصِدْقِهِ اضْطِرَارًا؛ لِأَنَّ وُقُوعَ مِثْلِ ذَلِكَ الْخَارِقِ لَمْ يَكُنْ يُدْعَى بِدُونِ اقْتِرَانِ الدَّعْوَةِ وَالتَّحَدِّي، لَكِنَّ الْعِلْمَ حَاصِلٌ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا انْبَنَى عَلَيْهِ الْعِلْمُ مَعْلُومٌ أَيْضًا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اطِّرَادَ الْعَوَائِدِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، بَلْ إِنْ كَانَ فَمَظْنُونٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَان: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْتِمْرَارَ أَمْرٍ فِي الْعَالَمِ مُسَاوٍ لِابْتِدَاءِ وَجُودِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِمْرَارَ إِنَّمَا هُوَ بِالْإِمْدَادِ الْمُسْتَمِرِّ، وَالْإِمْدَادُ مُمْكِنٌ أَنْ لَا يُوجَدَ، كَمَا أَنَّ اسْتِمْرَارَ الْعَدَمِ عَلَى الْمَوْجُودِ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ كَانَ مُمْكِنًا فَلَمَّا حَصَلَ أَحَدُ طَرَفَيِ الْإِمْكَانِ مَعَ جَوَازِ بَقَائِهِ عَلَى أَصْلِ الْعَدَمِ؛ فَكَذَلِكَ وَجُودُهُ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي مُمْكِنٌ، وَعَدَمُهُ كَذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَكَيْفَ يَصِحُّ مَعَ إِمْكَانِ عَدَمِ اسْتِمْرَارِ وَجُودِهِ الْعِلْمُ بِاسْتِمْرَارِ وَجُودِهِ، هَلْ هَذَا إِلَّا عَيْنُ الْمُحَالِ؟ وَالثَّانِي: إِنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ فِي الْوُجُودِ غَيْرُ قَلِيلٍ، بَلْ ذَلِكَ كَثِيرٌ وَلَا سِيَّمَا مَا جَرَى عَلَى أَيْدِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَا انْخَرَقَ لِلْأَوْلِيَاءِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَفِي الْأُمَمِ قَبْلَهَا مِنَ الْعَادَاتِ، وَالْوُقُوعُ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ، فَهُوَ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ، فَإِذًا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَجَارِيَ الْعَادَاتِ مَعْلُومَةً الْبَتَّةَ. فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْجَوَازَ الْعَقْلِيَّ غَيْرُ مُنْدَفِعٍ عَقْلًا، وَإِنَّمَا انْدَفَعَ بِالسَّمْعِ الْقَطْعِيِّ، وَإِذَا انْدَفَعَ بِالسَّمْعِ وَهُوَ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ؛ لَمْ يُفِدْ حُكْمَ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا تَعَارُضٌ فِي الْقَطْعِيَّاتِ وَهُوَ مُحَالٌ. لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّمَا يَكُونُ مُحَالًا إِذَا تَعَارَضَا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هُنَا، بَلِ الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ هُنَا بَاقٍ عَلَى حُكْمِهِ فِي أَصْلِ الْإِمْكَانِ، وَالِامْتِنَاعِ السَّمْعِيِّ رَاجِعٌ إِلَى الْوُقُوعِ، وَكَمْ مِنْ جَائِزٍ غَيْرُ وَاقِعٍ؟! وَكَذَلِكَ نَقُولُ: الْعَالَمُ كَانَ قَبْلَ وُجُودِهِ مُمْكِنًا أَنْ يَبْقَى عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الْعَدَمِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ؛ فَنِسْبَةُ اسْتِمْرَارِ الْعَدَمِ عَلَيْهِ أَوْ إِخْرَاجِهِ إِلَى الْوُجُودِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ كَانَ مِنْ جِهَةِ عِلْمِ اللَّهِ فِيهِ لَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ؛ فَوَاجِبٌ وُجُودُهُ، وَمُحَالٌ اسْتِمْرَارُ عَدَمِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مُمْكِنُ الْبَقَاءِ عَلَى أَصْلِ الْعَدَمِ؛ وَلِذَلِكَ قَالُوا: مِنَ الْجَائِزِ تَنْعِيمُ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ، وَتَعْذِيبُ مَنْ مَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْجَائِزَ مُحَالُ الْوُقُوعِ مِنْ جِهَةِ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ الْكُفَّارَ هُمُ الْمُعَذَّبُونَ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ هُمُ الْمُنَعَّمُونَ؛ فَلَمْ يَتَوَارَدِ الْجَوَازُ وَالِامْتِنَاعُ وَالْوُجُوبُ عَلَى مَرْمًى وَاحِدٍ، كَذَلِكَ هَاهُنَا؛ فَالْجَوَازُ مِنْ حَيْثُ نَفْسِ الْجَائِزِ، وَالْوُجُوبِ أَوْ الِامْتِنَاعِ مِنْ حَيْثُ أَمْرٍ خَارِجٍ؛ فَلَا يَتَعَارَضَانِ. وَعَنِ الثَّانِي أَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ الْعِلْمَ الْمَحْكُومَ بِهِ عَلَى الْعَادَاتِ إِنَّمَا هُوَ فِي كُلِّيَّاتِ الْوُجُودِ لَا فِي جُزْئِيَّاتِهِ، وَمَا اعْتُرِضَ بِهِ مِنْ بَابِ الْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ الَّتِي لَا تَخْرِمُ كُلِّيَّةً، وَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَابِ الْعَوَائِدِ شَكًّا وَلَا تَوَقُّفًا فِي الْعَمَلِ عَلَى مُقْتَضَى الْعَادَاتِ الْبَتَّةَ، وَلَوْلَا اسْتِقْرَارُ الْعِلْمِ بِالْعَادَاتِ؛ لَمَا ظَهَرَتِ الْخَوَارِقُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ مِنْ أَنْبَلِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْعِلْمِ بِمَجَارِيَ الْعَادَاتِ، وَأَصْلُهُ لِلْفَخْرِ الرَّازِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِذَا رَأَيْنَا جُزْئِيًّا انْخَرَقَتْ فِيهِ الْعَادَةُ عَلَى شَرْطِ ذَلِكَ؛ دَلَّنَا عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْخَوَارِقُ مِنْ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِ اقْتَرَنَتْ بِالتَّحَدِّي، أَوْ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ إِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ، أَوِ اقْتَرَنَتْ بِدَعْوَى الْوِلَايَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ ذَلِكَ، وَلَا يَقْدَحُ انْخِرَاقُهَا فِي عِلْمِنَا بِاسْتِمْرَارِ الْعَادَاتِ الْكُلِّيَّةِ، كَمَا إِذَا رَأَيْنَا عَادَةً جَرَتْ فِي جُزْئِيَّةٍ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ؛ غَلَبَ عَلَى ظُنُونِنَا أَيْضًا اسْتِمْرَارُهَا فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَجَازَ عِنْدَنَا خَرْقُهَا بِدَلِيلِ انْخِرَاقِ مَا انْخَرَقَ مِنْهَا، وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي عِلْمِنَا بِاسْتِمْرَارِ الْعَادِيَّاتِ الْكُلِّيَّةِ، وَهَكَذَا حُكْمُ سَائِرِ مَسَائِلِ الْأُصُولِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ قَطْعِيٌّ، وَالْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ قَطْعِيٌّ، وَالْعَمَلَ بِالتَّرْجِيحِ عِنْدَ تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ الظَّنِّيَّيْنِ قَطْعِيٌّ، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ، فَإِذَا جِئْتَ إِلَى قِيَاسٍ مُعَيَّنٍ لِتَعْمَلَ بِهِ كَانَ الْعَمَلُ [بِهِ] ظَنِّيًّا، أَوْ أَخَذْتَ فِي الْعَمَلِ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ وَجَدْتَهُ ظَنِّيًّا لَا قَطْعِيًّا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَسَائِلِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَادِحًا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ الْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ.
الْعَوَائِدُ الْمُسْتَمِرَّةُ ضَرْبَان: أَحَدُهُمَا: الْعَوَائِدُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي أَقَرَّهَا الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ أَوْ نَفَاهَا، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الشَّرْعُ أَمَرَ بِهَا إِيجَابًا أَوْ نَدْبًا، أَوْ نَهَى عَنْهَا كَرَاهَةً أَوْ تَحْرِيمًا، أَوْ أَذِنَ فِيهَا فِعْلًا وَتَرْكًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: هِيَ الْعَوَائِدُ الْجَارِيَةُ بَيْنَ الْخَلْقِ بِمَا لَيْسَ فِي نَفْيِهِ وَلَا إِثْبَاتِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَثَابِتٌ أَبَدًا كَسَائِرِ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا قَالُوا فِي سَلْبِ الْعَبْدِ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ، وَفِي الْأَمْرِ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَاتِ، وَطَهَارَةِ التَّأَهُّبِ لِلْمُنَاجَاةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَاتِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ عَلَى الْعُرْيِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعَوَائِدِ الْجَارِيَةِ فِي النَّاسِ، إِمَّا حَسَنَةً عِنْدَ الشَّارِعِ أَوْ قَبِيحَةً؛ فَإِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأُمُورِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ؛ فَلَا تَبْدِيلَ لَهَا وَإِنِ اخْتَلَفَ آرَاءُ الْمُكَلَّفِينَ فِيهَا؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَنْقَلِبَ الْحَسَنُ فِيهَا قَبِيحًا وَلَا الْقَبِيحُ حَسَنًا، حَتَّى يُقَالَ مَثَلًا: إِنَّ قَبُولَ شَهَادَةِ الْعَبْدِ لَا تَأْبَاهُ مَحَاسِنُ الْعَادَاتِ الْآنَ فَلْنُجِزْهُ، أَوْ إِنْ كَانَ كَشْفُ الْعَوْرَةِ الْآنَ لَيْسَ بِعَيْبٍ وَلَا قَبِيحٍ؛ فَلْنُجِزْهُ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، إِذْ لَوْ صَحَّ مِثْلُ هَذَا لَكَانَ نَسْخًا لِلْأَحْكَامِ الْمُسْتَقِرَّةِ الْمُسْتَمِرَّةِ، وَالنَّسْخُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِلٌ، فَرَفْعُ الْعَوَائِدِ الشَّرْعِيَّةِ بَاطِلٌ. وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْعَوَائِدُ ثَابِتَةً، وَقَدْ تَتَبَدَّلُ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَهِيَ أَسْبَابٌ لِأَحْكَامٍ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا. فَالثَّابِتَةُ كَوُجُودِ شَهْوَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَالْوِقَاعِ وَالنَّظَرِ، وَالْكَلَامِ وَالْبَطْشِ وَالْمَشْيِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَتْ أَسْبَابًا لِمُسَبِّبَاتٍ حَكَمَ بِهَا الشَّارِعُ، فَلَا إِشْكَالَ فِي اعْتِبَارِهَا وَالْبِنَاءِ عَلَيْهَا وَالْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهَا دَائِمًا. وَالْمُتَبَدِّلَةُ مِنَ الْعَادَات: مِنْهَا: مَا يَكُونُ مُتَبَدِّلًا فِي الْعَادَةِ مِنْ حُسْنٍ إِلَى قُبْحٍ، وَبِالْعَكْسِ، مِثْلَ كَشْفِ الرَّأْسِ؛ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْبِقَاعِ فِي الْوَاقِعِ، فَهُوَ لَذَوِي الْمُرُوءَاتِ قَبِيحٌ فِي الْبِلَادِ الْمَشْرِقِيَّةِ، وَغَيْرُ قَبِيحٍ فِي الْبِلَادِ الْمَغْرِبِيَّةِ؛ فَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ ذَلِكَ؛ فَيَكُونُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَشْرِقِ قَادِحًا فِي الْعَدَالَةِ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْمَغْرِبِ غَيْرَ قَادِحٍ. وَمِنْهَا: مَا يَخْتَلِفُ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَقَاصِدِ؛ فَتَنْصَرِفُ الْعِبَارَةُ عَنْ مَعْنًى إِلَى عِبَارَةٍ أُخْرَى، إِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اخْتِلَافِ الْأُمَمِ كَالْعَرَبِ مَعَ غَيْرِهِمْ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُمَّةِ الْوَاحِدَةِ كَاخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ بِحَسَبَ اصْطِلَاحِ أَرْبَابِ الصَّنَائِعِ فِي صَنَائِعِهِمْ مَعَ اصْطِلَاحِ الْجُمْهُورِ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي، حَتَّى صَارَ ذَلِكَ اللَّفْظُ إِنَّمَا يُسْبَقُ مِنْهُ إِلَى الْفَهْمِ مَعْنًى مَا، وَقَدْ كَانَ يُفْهَمُ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ شَيْءٌ آخَرُ، أَوْ كَانَ مُشْتَرِكًا فَاخْتَصَّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَالْحُكْمُ أَيْضًا يَتَنَزَّلُ عَلَى مَا هُوَ مُعْتَادٌ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنِ اعْتَادَهُ دُونَ مَنْ لَمْ يَعْتَدْهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَجْرِي كَثِيرًا فِي الْأَيْمَانِ وَالْعُقُودِ وَالطَّلَاقِ، كِنَايَةً وَتَصْرِيحًا. وَمِنْهَا: مَا يَخْتَلِفُ فِي الْأَفْعَالِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوِهَا؛ مِنَ الْعَادَاتِ كَمَا إِذَا كَانَتِ الْعَادَةُ فِي النِّكَاحِ قَبْضَ الصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ فِي الْبَيْعِ الْفُلَانِيِّ أَنْ يَكُونَ بِالنَّقْدِ لَا بِالنَّسِيئَةِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ إِلَى أَجَلِ كَذَا دُونَ غَيْرِهِ؛ فَالْحُكْمُ أَيْضًا جَارٍ عَلَى ذَلِكَ حَسْبَمَا هُوَ مَسْطُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَمِنْهَا: مَا يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ أُمُورٍ خَارِجَةٍ عَنِ الْمُكَلَّفِ، مِنَ الْعَادَاتِ كَالْبُلُوغِ؛ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ عَوَائِدُ النَّاسِ مِنَ الِاحْتِلَامِ أَوِ الْحَيْضِ، أَوْ بُلُوغِ سِنِّ مَنْ يَحْتَلِمُ أَوْ مَنْ تَحِيضُ، وَكَذَلِكَ الْحَيْضُ يُعْتَبَرُ فِيهِ إِمَّا عَوَائِدُ النَّاسِ بِإِطْلَاقٍ أَوْ عَوَائِدُ لِذَاتِ الْمَرْأَةِ أَوْ قَرَابَاتِهَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ؛ فَيُحْكَمُ لَهُمْ شَرْعًا بِمُقْتَضَى الْعَادَةِ فِي ذَلِكَ الِانْتِقَالِ. وَمِنْهَا: مَا يَكُونُ فِي أُمُورٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ؛ كَبَعْضِ النَّاسِ تَصِيرُ لَهُ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ عَادَةً، فَإِنَّ الْحُكْمَ عَلَيْهِ يَتَنَزَّلُ عَلَى مُقْتَضَى عَادَتِهِ الْجَارِيَةِ لَهُ الْمُطَّرِدَةِ الدَّائِمَةِ، بِشَرْطِ أَنْ تَصِيرَ الْعَادَةُ الْأَوْلَى الزَّائِلَةُ لَا تَرْجِعُ إِلَّا بِخَارِقَةٍ أُخْرَى؛ كَالْبَائِلِ أَوِ الْمُتَغَوِّطِ مِنْ جُرْحٍ حَدَثَ لَهُ حَتَّى صَارَ الْمَخْرَجُ الْمُعْتَادُ فِي النَّاسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ؛ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَصِرْ كَذَلِكَ؛ فَالْحُكْمُ لِلْعَادَةِ الْعَامَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ الِاخْتِلَافُ مِنْ أَوْجُهٍ غَيْرِ هَذِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَالْمُعْتَبِرُ فِيهَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ أَنْفُسُ تِلْكَ الْعَادَاتِ، وَعَلَيْهَا تَتَنَزَّلُ أَحْكَامُهُ لِأَنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا جَاءَ بِأُمُورٍ مُعْتَادَةٍ، جَارِيَةٍ عَلَى أُمُورٍ مُعْتَادَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا جَرَى ذِكْرُهُ هُنَا مِنِ اخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْعَوَائِدِ؛ فَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ بِاخْتِلَافٍ فِي أَصْلِ الْخِطَابِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَوْضُوعٌ عَلَى أَنَّهُ دَائِمٌ أَبَدِيٌّ، لَوْ فُرِضَ بَقَاءُ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ نِهَايَةٍ وَالتَّكْلِيفُ كَذَلِكَ، لَمْ يَحْتَجْ فِي الشَّرْعِ إِلَى مَزِيدٍ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الِاخْتِلَافِ أَنَّ الْعَوَائِدَ إِذَا اخْتَلَفَتْ رَجَعَتْ كُلُّ عَادَةٍ إِلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ يُحْكَمُ بِهِ عَلَيْهَا؛ كَمَا فِي الْبُلُوغِ مَثَلًا، فَإِنَّ الْخِطَابَ التَّكْلِيفِيَّ مُرْتَفِعٌ عَنِ الصَّبِيِّ مَا كَانَ قَبْلَ الْبُلُوغِ، فَإِذَا بَلَغَ وَقَعَ عَلَيْهِ التَّكْلِيفُ؛ فَسُقُوطُ التَّكْلِيفِ قَبْلَ الْبُلُوغِ ثُمَّ ثُبُوتُهُ بَعْدَهُ لَيْسَ بِاخْتِلَافٍ فِي الْخِطَابِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْعَوَائِدِ، أَوْ فِي الشَّوَاهِدِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي دَفْعِ الصَّدَاقِ بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ أَيْضًا، بِنَاءً عَلَى نَسْخِ تِلْكَ الْعَادَةِ لَيْسَ بِاخْتِلَافٍ فِي حُكْمٍ، بَلِ الْحُكْمُ أَنَّ الَّذِي تَرَجَّحَ جَانِبُهُ بِمَعْهُودٍ أَوْ أَصْلٍ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِإِطْلَاقٍ لِأَنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَمْثِلَةِ؛ فَالْأَحْكَامُ ثَابِتَةٌ تَتْبَعُ أَسْبَابَهَا حَيْثُ كَانَتْ بِإِطْلَاقٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْعَوَائِدُ الْجَارِيَةُ ضَرُورِيَّةُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا، كَانَتْ شَرْعِيَّةً فِي أَصْلِهَا أَوْ غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ؛ أَيْ: سَوَاءٌ كَانَتْ مُقَرَّرَةً بِالدَّلِيلِ شَرْعًا أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ إِذْنًا أَمْ لَا. أَمَّا الْمُقَرَّرَةُ بِالدَّلِيلِ؛ فَأَمْرُهَا ظَاهِرٌ، وَأَمَّا غَيْرُهَا؛ فَلَا يَسْتَقِيمُ إِقَامَةُ التَّكْلِيفِ إِلَّا بِذَلِكَ، فَالْعَادَةُ جَرَتْ بِأَنَّ الزَّجْرَ سَبَبُ الِانْكِفَافِ عَنِ الْمُخَالَفَةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [الْبَقَرَة: 179]. فَلَوْ لَمْ تُعْتَبَرِ الْعَادَةُ شَرْعًا؛ لَمْ يَنْحَتِمِ الْقِصَاصُ وَلَمْ يُشْرَعْ؛ إِذْ كَانَ يَكُونُ شَرْعًا لِغَيْرِ فَائِدَةٍ، وَذَلِكَ مَرْدُودٌ بِقَوْلِه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [الْبَقَرَة: 179]. وَكَذَلِكَ الْبَذْرُ سَبَبٌ لِنَبَاتِ الزَّرْعِ، وَالنِّكَاحُ سَبَبٌ لِلنَّسْلِ، وَالتِّجَارَةُ سَبَبٌ لِنَمَاءِ الْمَالِ عَادَةً؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [الْبَقَرَة: 187]. {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الْجُمُعَة: 10]. {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [الْبَقَرَة: 198]. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْمُسَبَّبَاتِ عَنْ أَسْبَابِهَا دَائِمًا، فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْمُسَبَّبَاتُ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْأَسْبَابِ؛ لَكَانَ خِلَافًا لِلدَّلِيلِ الْقَاطِعِ، فَكَانَ مَا أَدَّى إِلَيْهِ بَاطِلًا. وَوَجْهٌ ثَانٍ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْعِلْمِ بِالْعَادِيَّاتِ؛ فَإِنَّهُ جَارٍ هَاهُنَا. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَطَعْنَا بِأَنَّ الشَّارِعَ جَاءَ بِاعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ؛ لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِهِ الْعَوَائِدَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّشْرِيعُ عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ؛ دَلَّ عَلَى جَرَيَانِ الْمَصَالِحِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ التَّشْرِيعِ سَبَبُ الْمَصَالِحِ، وَالتَّشْرِيعُ دَائِمٌ كَمَا تَقَدَّمَ؛ فَالْمَصَالِحُ كَذَلِكَ، وَهُوَ مَعْنَى اعْتِبَارِهِ لِلْعَادَاتِ فِي التَّشْرِيعِ. وَوَجْهٌ رَابِعٌ، وَهُوَ أَنَّ الْعَوَائِدَ لَوْ لَمْ تُعْتَبَرْ لَأَدَّى إِلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ أَوْ غَيْرُ وَاقِعٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخِطَابَ؛ إِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعَادِيَّاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي تَوَجُّهِ التَّكْلِيفِ، أَوْ لَا؛ فَإِنِ اعْتُبِرَ فَهُوَ مَا أَرَدْنَا، وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ التَّكْلِيفَ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْعَالِمِ وَالْقَادِرِ، وَعَلَى غَيْرِ الْعَالِمِ وَالْقَادِرِ، وَعَلَى مَنْ لَهُ مَانِعٌ وَمَنْ لَا مَانِعَ لَهُ، وَذَلِكَ عَيْنُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَاضِحَةٌ كَثِيرَةٌ.
وَإِذَا كَانَتِ الْعَوَائِدُ مُعْتَبَرَةً شَرْعًا؛ فَلَا يُقْدَحُ فِي اعْتِبَارِهَا انْخِرَاقِهَا مَا بَقِيَتْ عَادَةً عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ فِي انْخِرَاقِهَا. وَمَعْنَى انْخِرَاقِهَا أَنَّهَا تَزُولُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جُزْئِيٍّ؛ فَيَخْلُفُهَا فِي الْمَوْضِعِ حَالَةٌ؛ إِمَّا مِنْ حَالَاتِ الْأَعْذَارِ الْمُعْتَادَةِ فِي النَّاسِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ مُنْخَرِقَةً بِعُذْرٍ؛ فَالْمَوْضِعُ لِلرُّخْصَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِمَّا إِلَى عَادَةٍ أُخْرَى دَائِمَةٍ بِحَسَبِ الْوَضْعِ الْعَادِيِّ، كَمَا فِي الْبَائِلِ مِنْ جُرْحٍ صَارَ مُعْتَادًا؛ فَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى حُكْمِ الْعَادَةِ الْأُولَى لَا إِلَى حُكْمِ الرُّخَصِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِمَّا إِلَى غَيْرِ عَادَةٍ، أَوْ إِلَى عَادَةٍ لَا تَخْرِمُ الْعَادَةَ الْأُولَى، فَإِنِ انْخَرَقَتْ إِلَى عَادَةٍ أُخْرَى لَا تَخْرِمُ الْعَادَةَ الْأُولَى، فَظَاهِرٌ أَيْضًا اعْتِبَارُهَا لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ رَاجِعٍ إِلَى بَابِ التَّرَخُّصِ، كَالْمَرَضِ الْمُعْتَادِ، وَالسَّفَرِ الْمُعْتَادِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمْعِ الصَّلَاتَيْنِ وَالْفِطْرِ وَالْقَصْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنِ انْخَرَقَتْ إِلَى غَيْرِ مُعْتَادٍ؛ فَهَلْ يَكُونُ لَهَا حُكْمُهَا فِي نَفْسِهَا، أَوْ تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْعَوَائِدِ الَّتِي تُنَاسِبُهَا؟ وَلَا بُدَّ مِنْ تَمْثِيلِهَا أَوَّلًا، ثُمَّ النَّظَرِ فِي مَجَارِي تِلْكَ الْأَحْكَامِ فِي الْخَوَارِقِ. فَمِنْ ذَلِكَ تَوَقُّفُ عُمَرَ بْنِ عَبْدَ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ إِكْرَاهِ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ، وَقَوْلُهُ لِمَنْ كَتَبَ لَهُ بِذَلِكَ: دَعُوهُ. وَقِصَّةُ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ حِينَ طَلَبَ الْحَجَّاجُ ابْنَهُ لِيَقْتُلَهُ؛ فَسَأَلَهُ الْحَجَّاجُ عَنِ ابْنِهِ فَأَخْبَرَهُ، وَالْأَبُ عَارِفٌ بِمَا يُرَادُ مِنَ ابْنِهِ. وَقِصَّةُ أَبِي حَمْزَةَ الْخُرَاسَانِيِّ حِينَ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ ثُمَّ سَدَّ رَأْسَهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَغِثْ. وَحَدِيثُ أَبِي يَزِيدَ مَعَ خَدِيمِهِ لَمَّا حَضَرَهُمَا شَقِيقٌ الْبَلْخِيُّ وَأَبُو تُرَابٍ النَّخْشَبِيُّ؛ فَقَالَا لِلْخَدِيم: كُلْ مَعَنَا.. فَقَالَ: أَنَا صَائِمٌ.. فَقَالَ أَبُو تُرَابٍ: كُلْ وَلَكَ أَجْرُ صَوْمِ شَهْرٍ، فَأَبَى.. فَقَالَ شَقِيقٌ: كُلْ وَلَكَ أَجْرُ صَوْمِ سَنَةٍ، فَأَبَى.. فَقَالَ أَبُو يَزِيدَ: دَعُوا مَنْ سَقَطَ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ.. فَأَخَذَ ذَلِكَ الشَّابُّ فِي السَّرِقَةِ بَعْدَ سَنَةٍ، وَقُطِعَتْ يَدَهُ. وَمِنْهُ دُخُولُ الْبَرِّيَّةِ بِلَا زَادٍ، وَدُخُولُ الْأَرْضِ الْمَسْبَعَةِ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْإِلْقَاءِ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ. فَالَّذِي يُقَالُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّ مَا خَالَفَ الشَّرِيعَةَ غَيْرُ صَحِيحٍ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا يَنْبَغِي حَمْلُهَا عَلَى الْمُخَالَفَةِ أَصْلًا مَعَ ثُبُوتِ دِينِ أَصْحَابِهَا، وَوَرَعِهِمْ وَفَضْلِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ بِنَاءً عَلَى الْأَخْذِ بِتَحْسِينِ الظَّنِّ فِي أَمْثَالِهِمْ، كَمَا أَنَّا مُؤَاخَذُونَ بِذَلِكَ فِي سَلَفِنَا الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ سَلَكَ فِي التَّقْوَى وَالْفَضْلِ سَبِيلَهُمْ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ فِيهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى مَا يُسَوَّغُ شَرْعًا. وَعِنْدَ ذَلِكَ؛ فَلَا يَخْلُو مَا بَنَوْا عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ غَرِيبًا مِنْ جِنْسِ الْعَادِيِّ، أَوْ لَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ؛ لَحِقَ بِجِنْسِ أَحْكَامِ الْعَادَاتِ. مِثَالُهُ الْأَمْرُ بِالْإِفْطَارِ؛ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى الْمُتَطَوِّعَ أَمِيرَ نَفْسِهِ، وَهُمُ الْأَكْثَرُ؛ فَتَصِيرُ إِبَايَةُ التِّلْمِيذِ عَنِ الْإِجَابَةِ عِنَادًا وَاتِّبَاعًا لِلْهَوَى، وَمِثْلُ هَذَا مَخُوفُ الْعَاقِبَةِ، لَا سِيَّمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُوَافَقَةِ مَنْ شَهُرَ فَضْلُهُ وَوِلَايَتُهُ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ عُمَرَ بِتَرْكِ مَانِعِ الزَّكَاةِ، لَعَلَّهُ كَانَ نَوْعًا مِنَ الِاجْتِهَادِ؛ إِذْ عَامَلَهُ مُعَامَلَةَ الْمُغَفَّلِينَ الْمُطْرَحِينَ فِي قَوَاعِدِ الدِّينِ؛ لِيَزْدَجِرَ بِنَفْسِهِ وَيَنْتَهِيَ عَمَّا هَمَّ بِهِ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ؛ فَإِنَّهُ رَاجَعَ نَفْسَهُ وَأَدَّى الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ لَا أَنَّهُ أَرَادَ تَرْكَهُ جُمْلَةً، بَلْ لِيَزْجُرَهُ بِذَلِكَ أَوْ يَخْتَبِرَ حَالَهُ، حَتَّى إِذَا أَصَرَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ أَقَامَ عَلَيْهِ مَا يُقَامُ عَلَى الْمُمْتَنِعِينَ. وَمِثْلُ ذَلِكَ قِصَّةُ رِبْعِيٍّ بْنِ حِرَاشٍ فَإِنَّهُ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ قَطُّ؛ فَلِذَلِكَ سَأَلَهُ الْحَجَّاجُ عَنِ ابْنِهِ، وَالصِّدْقُ مِنْ عَزَائِمِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا جَوَازُ الْكَذِبِ رُخْصَةٌ يَجُوزُ أَنْ لَا يُعْمَلَ بِمُقْتَضَاهَا، بَلْ هُوَ أَعْظَمُ أَجْرًا؛ كَمَا فِي النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ وَهِيَ رَأْسُ الْكَذِبِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التَّوْبَة: 119] بَعْدَمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ قِصَّةَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا؛ فَمَدَحَهُمُ اللَّهُ بِالْتِزَامِ الصِّدْقِ فِي مَوْطِنٍ هُوَ مَظِنَّةٌ لِلرُّخْصَةِ، وَلَكِنْ أَحْمَدُوا أَمْرَهُمْ فِي طَرِيقِ الصِّدْقِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَمْنَ فِي طَرِيقِ الْمَخَافَةِ مَرْجُوٌّ؟ وَقَدْ قِيلَ: عَلَيْكَ بِالصِّدْقِ حَيْثُ تَخَافُ أَنَّهُ يَضُرُّكَ؛ فَإِنَّهُ يَنْفَعُكَ، وَدَعْ الْكَذِبَ حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ يَنْفَعُكَ؛ فَإِنَّهُ يَضُرُّكَ، وَهُوَ أَصْلٌ صَحِيحٌ شَرْعِيٌّ. وَمِثْلُهُ قِصَّةُ أَبِي حَمْزَةَ مِنْ بَابِ الْأَخْذِ بِعَزَائِمَ الْعَلَمِ؛ فَإِنَّهُ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَعْتَمِدَ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ؛ فَلَمْ يَتَرَخَّصْ، وَهُوَ أَصْلٌ صَحِيحٌ، وَدَلَّ عَلَى خُصُوصِ مَسْأَلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطَّلَاق: 3]، وَوِكَالَةُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ وَكَالَةِ غَيْرِهِ، وَقَدْ قَالَ هُودٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} الْآيَةَ [هُودٍ: 55]، وَلَمَّا عَقَدَ أَبُو حَمْزَةَ عَقْدًا طُلِبَ بِالْوَفَاءِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النَّحْل: 91]. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَّ أُنَاسًا بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ لَا يَسْأَلُوا أَحَدًا شَيْئًا؛ فَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا وَقَعَ سَوْطُهُ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا رَفَعَهُ إِلَيْهِ؛ فَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ: رَبِّ! إِنَّ هَؤُلَاءِ عَاهَدُوا نَبِيَّكَ إِذَا رَأَوْهُ، وَأَنَا أُعَاهِدُكَ أَنْ لَا أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا أَبَدًا.. قَالَ: فَخَرَجَ حَاجًّا مِنَ الشَّامِ يُرِيدُ مَكَّةَ...... إِلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ. وَهَذَا أَيْضًا مِنْ قَبِيلِ الْأَخْذِ بِعَزَائِمَ الْعِلْمِ؛ إِذْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ مِثْلَ مَا عَقَدَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ؛ فَلَيْسَ بِجَارٍ عَلَى غَيْرِ الْأَصْلِ الشَّرْعِيِّ، وَلِذَلِكَ لَمَّا حَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْحِكَايَةَ قَالَ: فَهَذَا رَجُلٌ عَاهَدَ اللَّهَ، فَوَجَدَ الْوَفَاءَ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ؛ فَبِهِ فَاقْتَدُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَهْتَدُوا. وَكَذَلِكَ دُخُولُ الْأَرْضِ الْمَسْبَعَةِ وَدُخُولُ الْبَرِّيَّةِ بِلَا زَادٍ؛ فَقَدْ تَبَيَّنَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ وُجُودُ الْأَسْبَابِ وَعَدَمُهَا عِنْدَهُمْ سَوَاءً؛ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ وَخَالِقُ مُسَبَّبَاتِهَا؛ فَمَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ؛ فَالْأَسْبَابُ عِنْدَهُ كَعَدَمِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَخَافَةٌ مِنْ مَخُوفٍ مَخْلُوقٍ، [وَلَا رَجَاءٌ فِي مَرْجُوٍّ مَخْلُوقٍ]؛ إِذْ لَا مَخُوفَ وَلَا مَرْجُوَّ إِلَّا اللَّهُ؛ فَلَيْسَ هَذَا إِلْقَاءٌ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ حَصَلَ فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَتَزَوَّدْ هَلَكَ، وَإِنْ قَارَبَ السَّبُعَ هَلَكَ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ؛ فَلَا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ شَرَطَ الْغَزَالِيُّ فِي دُخُولِ الْبَرِّيَّةِ بِلَا زَادٍ اعْتِيَادَ الصَّبْرِ وَالِاقْتِيَاتِ بِالنَّبَاتِ، وَكُلُّ هَذَا رَاجِعٌ إِلَى حُكْمٍ عَادِيٍّ. وَلَعَلَّكَ تَجِدُ مَخْرَجًا فِي كُلِّ مَا يَظْهَرُ عَلَى أَيْدِي الْأَوْلِيَاءِ الَّذِي ثَبَتَتْ وِلَايَتُهُمْ، بِحَيْثُ يُرْجَعُ إِلَى الْأَحْكَامِ الْعَادِيَّةِ، بَلْ لَا تَجِدُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِلَّا كَذَلِكَ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَا بَنَوْا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْعَادِيِّ؛ كَالْمُكَاشَفَةِ؛ فَهَلْ يَكُونُ حُكْمُهُمْ فِيهِ حُكْمَ أَهْلِ الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ، بِحَيْثُ يُطْلَبُونَ بِالرُّجُوعِ إِلَى مَا عَلَيْهِ النَّاسُ؟ أَمْ يُعَامَلُونَ مُعَامَلَةً أُخْرَى خَارِجَةً عَنْ أَحْكَامِ أَهْلِ الْعَوَائِدِ الظَّاهِرَةِ فِي النَّاسِ، وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً فِي الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهَا فِي تَحْقِيقِ الْكَشْفِ الْغَيْبِيِّ مُوَافِقَةٌ لَا مُخَالِفَةٌ. وَالَّذِي يَطَّرِدُ بِحَسَبِ مَا ثَبَتَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ وَمَا قَبْلَهَا أَنْ لَا يَكُونُ حُكْمُهُمْ مُخْتَصًّا، بَلْ يُرَدُّونَ إِلَى أَحْكَامِ أَهْلِ الْعَوَائِدِ الظَّاهِرَةِ وَيَطْلُبُهُمُ الْمُرَبِّي بِذَلِكَ حَتْمًا، وَقَدْ مَرَّ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ أَيْضًا أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَحْكَامَ لَوْ وُضِعَتْ عَلَى حُكْمِ انْخِرَاقِ الْعَوَائِدِ لَمْ تَنْتَظِمْ لَهَا قَاعِدَةٌ، وَلَمْ يَرْتَبِطْ لِحُكْمِهَا مُكَلَّفٌ إِذْ كَانَتْ؛ لَكَوْنِ الْأَفْعَالِ كُلِّهَا دَاخِلَةً تَحْتَ إِمْكَانِ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ؛ فَلَا وَجْهَ إِلَّا وَيُمْكِنُ فِيهِ الصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ؛ فَلَا حُكْمَ لِأَحَدٍ عَلَى فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْبَتِّ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُحْكَمُ بِتَرَتُّبِ ثَوَابٍ وَلَا عِقَابٍ، وَلَا إِكْرَامٍ وَلَا إِهَانَةٍ، وَلَا حَقْنِ دَمٍ وَلَا إِهْدَارِهِ، وَلَا إِنْفَاذِ حُكْمٍ مِنْ حَاكِمٍ، وَمَا كَانَ هَكَذَا، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُشَرَّعَ مَعَ فَرْضِ اعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ، وَهُوَ الَّذِي انْبَنَتِ الشَّرِيعَةُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأُمُورَ الْخَارِقَةَ لَا تَطَّرِدُ أَنْ تَصِيرَ حُكْمًا يُبْنَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ، وَإِذَا اخْتَصَّتْ لَمْ تَجْرِ مَعَ غَيْرِهِمْ؛ فَلَا تَكُونُ قَوَاعِدُ الظَّوَاهِرِ شَامِلَةً لَهُمْ، وَلَا أَيْضًا تَجْرِي فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؛ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُحْكَمَ بِمُقْتَضَى الْخَوَارِقِ عَلَى مَنْ لَيْسَ مَنْ أَهْلِهَا بِاتِّفَاقٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، أَعْنِي فِي نَصْبِ أَحْكَامِ الْعَامَّةِ؛ إِذْ لَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَوِ السُّلْطَانِ أَنْ يَحْكُمَ لِلْوَلِيِّ بِمُقْتَضَى كَشْفِهِ، أَوْ [كَشْفِ] السُّلْطَانِ نَفْسِهِ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِوَلِيٍّ مِنْ غَيْرِ مُعَامَلَةٍ بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، وَلَا أَيْضًا لِلْوَلِيَّيْنِ إِذَا تَرَافَقَا إِلَى الْحَاكِمِ فِي قَضِيَّةٍ. وَإِذَا فُرِضَ أَنَّهَا غَيْرُ شَامِلَةٍ لَهُمْ كَانَ عَلَى غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ الْبُرْهَانُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ عَامَّةٌ وَأَحْكَامُهَا عَامَّةٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ وَفِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، كَيْفَ وَهَمَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْوَلِيَّ قَدْ يَعْصِي وَالْمَعَاصِي جَائِزَةٌ عَلَيْهِ؛ فَلَا فِعْلَ يُخَالِفُ ظَاهِرُهُ ظَاهِرَ الشَّرْعِ إِلَّا وَالسَّابِقُ إِلَى بَادِئِ الرَّأْيِ مِنْهُ أَنَّهُ عِصْيَانٌ؛ فَلَا يَصِحُّ مَعَ هَذَا أَنْ يَثْبُتَ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ الْخَارِقَ الَّذِي لَا يَجْرِي عَلَى ظَاهِرِ الشَّرْعِ مَشْرُوعٌ؛ لِتَطَرُّقِ الِاحْتِمَالَاتِ. وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ أَوْلَى الْخَلْقِ بِهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ إِلَّا مَا نَصَّتْ شَرِيعَتُهُ عَلَيْهِ مِمَّا خُصَّ بِهِ وَلَمْ يَعْدُ إِلَى غَيْرِهِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ، فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَالَ لَهُ: يُحِلُّ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مَا شَاءَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّكَ لَسْتَ مِثْلَنَا، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ.. فَغَضِبَ وَقَالَ: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي». وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُسْتَشْفَى بِهِ وَبِدُعَائِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مَسَّ بَشَرَةَ أُنْثَى مِمَّنْ لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ لَهُ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ، وَكَانَتِ النِّسَاءُ يُبَايِعْنَهُ وَلَمْ تَمَسَّ يَدُهُ يَدَ أُنْثَى قَطُّ، وَلَكِنْ كَانَ يَعْمَلُ فِي الْأُمُورِ عَلَى مُقْتَضَى الظَّوَاهِرِ وَإِنَّ كَانَ عَالِمًا بِهَا، وَقَدْ مَرَّ مِنْ هَذَا أَشْيَاءُ، وَهُوَ الَّذِي قَعَّدَ الْقَوَاعِدَ وَلَمْ يَسْتَثْنِ وَلِيًّا مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَ حَقِيقًا بِذَلِكَ لَوْ نَزَلَ الْحُكْمُ عَلَى اسْتِثْنَاءِ الْوَلِيِّ وَأَصْحَابِ الْخَوَارِقِ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَهُمُ الْأَوْلِيَاءُ حَقًّا، وَالْفُضَلَاءُ صِدْقًا. وَفِي قِصَّةِ الرُّبَيْعِ بَيَانٌ لِهَذَا؛ حَيْثُ قَالَ وَلَيُّهَا أَوْ مَنْ كَانَ: وَاللَّهِ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ». وَلَمْ يَكْتَفِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، فَكَانَ يُرْجِئُ الْأَمْرَ حَتَّى يَبْرُزَ أَثَرُ الْقَسَمِ، بَلْ أَلْجَأَ إِلَى الْقِصَاصِ الَّذِي فِيهِ أَشَدُّ مِحْنَةً حَتَّى عَفَا أَهْلُهُ؛ فَحِينَئِذٍ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ»، فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَسَمَ قَدْ أَبَرَّهُ اللَّهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ حَتَّى ظَهَرَ لَهُ كُرْسِيٌّ وَهُوَ الْعَفْوُ، وَالْعَفْوُ مُنْتَهِضٌ فِي ظَوَاهِرِ الْحُكْمِ سَبَبًا لِإِسْقَاطِ الْقِصَاصِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْخَوَارِقَ فِي الْغَالِبِ إِذَا جَرَتْ أَحْكَامُهَا مُعَارِضَةً لِلضَّوَابِطِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَلَا تَنْتَهِضُ أَنْ تَثْبُتَ وَلَوْ كَضَرَائِرِ الشِّعْرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِعْمَالٌ لِمُخَالَفَةِ الْمَشْرُوعَاتِ، وَنَقْضٌ لِمَصَالِحِهَا الْمَوْضُوعَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كَانَ عَالِمًا بِالْمُنَافِقِينَ وَأَعْيَانِهِمْ، وَكَانَ يَعْلَمُ مِنْهُمْ فَسَادًا فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ قَتْلِهِمْ لِمُعَارِضٍ هُوَ أَرْجَحُ فِي الِاعْتِبَارِ؛ فَقَالَ: «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»، فَمِثْلُهُ يُلْغَى فِي جَرَيَانِ أَحْكَامِ الْخَوَارِقِ عَلَى أَصْحَابِهَا؛ حَتَّى لَا يَعْتَقِدَ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ أَنَّ لِلصُّوفِيَّةِ شَرِيعَةً أُخْرَى، وَلِهَذَا وَقَعَ إِنْكَارُ الْفُقَهَاءِ لِفِعْلِ أَبِي يَعْزَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَالْقَوْلُ بِجَوَازِ انْفِرَادِ أَصْحَابِ الْخَوَارِقِ بِأَحْكَامٍ خَارِجَةٍ عَنْ أَحْكَامِ الْعَادَاتِ الْجُمْهُورِيَّةِ قَوْلٌ يَقْدَحُ فِي الْقُلُوبِ أُمُورًا يُطْلَبُ بِالتَّحَرُّزِ مِنْهَا شَرْعًا؛ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَصُّوا بِزَائِدٍ عَلَى مَشْرُوعِ الْجُمْهُورِ، وَلِذَلِكَ أَيْضًا اعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنَ الْغَالِينَ فِيهِمْ مَذْهَبَ الْإِبَاحَةِ، وَعَضَّدُوا بِمَا سَمِعُوا مِنْهَا رَأْيَهُمْ، وَهَذَا [كُلُّهُ] تَعْرِيضٌ لَهُمْ إِلَى سُوءِ الْمَقَالَةِ. وَحَاشَ لِلَّهِ أَنَّ يَكُونَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ إِلَّا بُرَآءَ مِنْ هَذِهِ الْخَوَارِقِ الْمُنْخَرِقَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْكَلَامَ جَرَى إِلَى الْخَوْضِ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ فَقَدْ عُلِمَ مِنْهُمُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى حُدُودِ الشَّرِيعَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَهُمُ الْقَائِمُونَ بِأَحْكَامِ السُّنَّةِ عَلَى مَا يَنْبَغِي، الْمُحَافِظُونَ عَلَى اتِّبَاعِهَا، لَكِنَّ انْحِرَافَ الْفَهْمِ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ وَفِيمَا قَبْلَهَا طَرَقَ فِي أَحْوَالِهِمْ مَا طَرَقَ، وَلِأَجْلِهِ وَقَعَ الْبَحْثُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ؛ حَتَّى يَتَقَرَّرَ بِحَوْلِ اللَّهِ مَا يُفْهَمُ بِهِ عَنْهُمْ مَقَاصِدُهُمْ، وَمَا تُوزَنُ بِهِ أَحْوَالُهُمْ، حَسْبَمَا تُعْطِيهِ حَقِيقَةُ طَرِيقَتِهِمُ الْمُثْلَى، نَفَعَهُمُ اللَّهُ وَنَفَعَ بِهِمْ. ثُمَّ نَرْجِعُ إِلَى تَمَامِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَنَقُولُ: وَلَيْسَ الِاطِّلَاعُ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ وَلَا الْكَشْفُ الصَّحِيحُ بِالَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الْجَرَيَانِ عَلَى مُقْتَضَى الْأَحْكَامِ الْعَادِيَّةِ، وَالْقُدْوَةُ فِي ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي انْخِرَاقِ الْعَادَاتِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا فِي الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعْصُومًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [الْمَائِدَة: 67]، وَلَا غَايَةَ وَرَاءَ هَذَا، ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ يَتَحَصَّنُ بِالدِّرْعِ وَالْمِغْفَرِ، وَيَتَوَقَّى مَا الْعَادَةُ أَنْ يَتَوَقَّى، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نُزُولًا عَنْ رُتْبَتِهِ الْعُلْيَا إِلَى مَا دُونَهَا، بَلْ هِيَ أَعْلَى. وَمَا ذُكِرَ مِنْ اسْتِوَاءِ الْعَوَائِدِ وَعَدَمِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ؛ فَذَلِكَ أَيْضًا غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْعَوَائِدِ عَلَى مُقْتَضَاهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ كَانُوا حَازُوا رُتْبَةَ التَّوَكُّلِ، وَرُؤْيَةَ إِنْعَامِ الْمُنْعَمِ مِنَ الْمُنْعِمِ لَا مِنَ السَّبَبِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَتْرُكُوا الدُّخُولَ فِي الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي نُدِبُوا إِلَيْهَا، وَلَمْ يَتْرُكْهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي تُسْقِطُ حُكْمَ الْأَسْبَابِ وَتَقْضِي بِانْخِرَامِ الْعَوَائِدِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا الْعَزَائِمُ الَّتِي جَاءَ الشَّرْعُ بِهَا؛ لِأَنَّ حَالَ انْخِرَاقِ الْعَوَائِدِ لَيْسَ بِمَقَامٍ يُقَامُ فِيهِ، وَإِنَّمَا مَحَلُّهُ مَحَلُّ الرُّخْصَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قَيِّدْهَا وَتَوَكَّلْ». وَقَدْ كَانَ الْمُكَمِّلُونَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ يَدْخُلُونَ فِي الْأَسْبَابِ تَأَدُّبًا بِآدَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَظَرًا إِلَى أَنَّ وَضْعَ اللَّهِ تَعَالَى أَحْوَالَ الْخَلْقِ عَلَى الْعَوَائِدِ الْجَارِيَةِ يُوَضِّحُ أَنَّ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ الدُّخُولُ تَحْتَ أَحْكَامِ الْعَوَائِدِ، وَلَمْ يَكُونُوا لِيَتْرُكُوا الْأَفْضَلَ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا قِصَّةٌ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَوْلُهُ: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الْكَهْف: 82]، فَيُظْهِرُ بِهِ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ اسْتِدْلَالًا بِهَذَا الْقَوْلِ، وَيَجُوزُ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَحْكُمَ بِمُقْتَضَى الْوَحْيِ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ، وَإِنْ سَلِمَ؛ فَهِيَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ وَلِأَمْرٍ مَا، وَلَيْسَتْ جَارِيَةً عَلَى شَرْعِنَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ لِوَلِيٍّ وَلَا لِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ أَنْ يَقْتُلَ صَبِيًّا لَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ، وَإِنَّ عَلِمَ أَنَّهُ طُبِعَ كَافِرًا، وَأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَبَدًا، وَأَنَّهُ إِنْ عَاشَ أَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا، وَإِنْ أُذِنَ لَهُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ قَرَّرَتِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ أَنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى مُقْتَضَى شَرِيعَةٍ أُخْرَى، وَعَلَى مُقْتَضَى عِتَابِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِعْلَامِهِ أَنَّ ثَمَّ عِلْمًا آخَرَ وَقَضَايَا أُخَرَ لَا يَعْلَمُهَا هُوَ. فَلَيْسَ كُلُّ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ الْوَلِيُّ مِنَ الْغُيُوبِ يُسَوِّغُ لَهُ شَرْعًا أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ عَلَى ضَرْبَيْن: أَحَدُهُمَا: مَا خَالَفَ الْعَمَلُ بِهِ ظَوَاهِرَ الشَّرِيعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِحَّ رَدُّهُ إِلَيْهَا؛ فَهَذَا لَا يَصِحُّ الْعَمَلُ عَلَيْهِ الْبَتَّةَ. وَالثَّانِي: مَا لَمْ يُخَالِفْ [الْعَمَلُ] بِهِ شَيْئًا مِنَ الظَّوَاهِرِ، أَوْ إِنْ ظَهَرَ مِنْهُ خِلَافٌ؛ فَيَرْجِعُ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ إِلَيْهَا؛ فَهَذَا يُسَوَّغُ الْعَمَلُ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الطَّرِيقُ؛ فَهُوَ الصَّوَابُ، وَعَلَيْهِ يُرَبِّي الْمُرَبِّي، وَبِهِ يُعَلَّقُ هِمَمُ السَّالِكِينَ تَأَسِّيًا بِسَيِّدِ الْمَتْبُوعِينَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْخُرُوجِ عَنْ مُقْتَضَى الْحُظُوظِ، وَأَوْلَى بِرُسُوخِ الْقَدَمِ، وَأَحْرَى بِأَنْ يُتَابَعَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَيُقْتَدَى بِهِ فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْعَوَائِدُ أَيْضًا ضَرْبَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وُقُوعِهَا فِي الْوُجُود: أَحَدُهُمَا: الْعَوَائِدُ الْعَامَّةُ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ وَالْأَحْوَالِ؛ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَالْفَرَحِ وَالْحُزْنِ، وَالنَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ، وَالْمَيْلِ إِلَى الْمُلَائِمِ، وَالنُّفُورِ عَنِ الْمُنَافِرِ، وَتَنَاوُلِ الطَّيِّبَاتِ وَالْمُسْتَلَذَّاتِ، وَاجْتِنَابِ الْمُؤْلِمَاتِ وَالْخَبَائِثِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: الْعَوَائِدُ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ وَالْأَحْوَالِ؛ كَهَيْئَاتِ اللِّبَاسِ وَالْمَسْكَنِ، وَاللِّينِ فِي الشِّدَّةِ وَالشِّدَّةِ فِيهِ، وَالْبُطْءِ وَالسُّرْعَةِ فِي الْأُمُورِ، وَالْأَنَاةِ وَالِاسْتِعْجَالِ، وَمَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَيُقْضَى بِهِ عَلَى أَهْلِ الْأَعْصَارِ الْخَالِيَةِ وَالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ؛ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ مَجَارِيَ سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ وَعَلَى سُنَنِهِ لَا تَخْتَلِفُ عُمُومًا كَمَا تَقَدَّمَ؛ فَيَكُونُ مَا جَرَى مِنْهَا فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ مَحْكُومًا بِهِ عَلَى الزَّمَانِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ مُطْلَقًا، كَانَتِ الْعَادَةُ وُجُودِيَّةً أَوْ شَرْعِيَّةً. وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقْضَى بِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ الْبَتَّةَ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْمُوَافَقَةِ مِنْ خَارِجٍ، فَإِذْ ذَاكَ يَكُونُ قَضَاءً عَلَى مَا مَضَى بِذَلِكَ الدَّلِيلِ لَا بِمَجْرَى الْعَادَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ أَيْضًا الْعَادَةُ الْوُجُودِيَّةُ وَالشَّرْعِيَّةُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ الضَّرْبَ الْأَوَّلَ رَاجِعٌ إِلَى عَادَةٍ كُلِّيَّةٍ أَبَدِيَّةٍ، وُضِعَتْ عَلَيْهَا الدُّنْيَا وَبِهَا قَامَتْ مَصَالِحُهَا فِي الْخَلْقِ، حَسْبَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ الِاسْتِقْرَاءُ، وَعَلَى وِفَاقِ ذَلِكَ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ أَيْضًا؛ فَذَلِكَ الْحُكْمُ الْكُلِّيُّ بَاقٍ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَهِيَ الْعَادَةُ الَّتِي تَقَدَّمَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا مَعْلُومَةٌ لَا مَظْنُونَةٌ، وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي؛ فَرَاجِعٌ إِلَى عَادَةٍ جُزْئِيَّةٍ دَاخِلَةٍ تَحْتَ الْعَادَةِ الْكُلِّيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الظَّنُّ لَا الْعِلْمُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُحْكَمَ بِالثَّانِيَةِ عَلَى مَنْ مَضَى لِاحْتِمَالِ التَّبَدُّلِ وَالتَّخَلُّفِ، بِخِلَافِ الْأُولَى. وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا فِي الْقَضَاءِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ، لِتَكُونَ حُجَّةً فِي الْآخِرِينَ، وَيَسْتَعْمِلَهَا الْأُصُولِيُّونَ كَثِيرًا بِالْبِنَاءِ عَلَيْهَا، وَرَدِّ الْقَضَاءِ بِالْعَامَّةِ إِلَيْهَا وَلَيْسَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ بِصَحِيحٍ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا فَاسِدٍ بِإِطْلَاقِ، بَلِ الْأَمْرُ فِيهِ يَحْتَمِلُ الِانْقِسَامَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَنْشَأُ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ قِسْمٌ ثَالِثٌ يَشْكُلُ الْأَمْرُ فِيه: هَلْ يُلْحَقُ بِالْأَوَّلِ فَيَكُونَ حُجَّةً، أَمْ لَا فَلَا يَكُونَ حُجَّةً؟
الْمَفْهُومُ مِنْ وَضْعِ الشَّارِعِ أَنَّ الطَّاعَةَ أَوِ الْمَعْصِيَةَ تَعْظُمُ بِحَسَبِ عِظَمِ الْمَصْلَحَةِ أَوِ الْمَفْسَدَةِ النَّاشِئَةِ عَنْهَا، وَقَدْ عُلِمَ مِنَ الشَّرِيعَةِ أَنَّ أَعْظَمَ الْمَصَالِحِ جَرَيَانُ الْأُمُورِ الضَّرُورِيَّةِ الْخَمْسَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، وَأَنَّ أَعْظَمَ الْمَفَاسِدِ مَا يَكِرُّ بِالْإِخْلَالِ عَلَيْهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا جَاءَ مِنَ الْوَعِيدِ عَلَى الْإِخْلَالِ بِهَا؛ كَمَا فِي الْكُفْرِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَمَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَمَا يَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ مِمَّا وُضِعَ لَهُ حَدٌّ أَوْ وَعِيدٌ، بِخِلَافِ مَا كَانَ رَاجِعًا إِلَى حَاجِيٍّ أَوْ تَكْمِيلِيٍّ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْتَصَّ بِوَعِيدٍ فِي نَفْسِهِ، وَلَا بِحَدٍّ مَعْلُومٍ يَخُصُّهُ؛ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى أَمْرٍ ضَرُورِيٍّ، وَالِاسْتِقْرَاءِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ؛ فَلَا حَاجَةَ إِلَى بَسْطِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. إِلَّا أَنَّ الْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ ضَرْبَان: أَحَدُهُمَا: مَا بِهِ صَلَاحُ الْعَالَمِ أَوْ فَسَادِهِ؛ كَإِحْيَاءِ النَّفْسِ فِي الْمَصَالِحِ، وَقَتْلِهَا فِي الْمَفَاسِدِ. وَالثَّانِي: مَا بِهِ كَمَالُ ذَلِكَ الصَّلَاحِ أَوْ ذَلِكَ الْفَسَادِ، وَهَذَا الثَّانِي لَيْسَ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ هُوَ عَلَى مَرَاتِبَ، وَكَذَلِكَ الْأَوَّلُ عَلَى مَرَاتِبَ أَيْضًا، فَإِنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْأَوَّلِ وَجَدْنَا الدِّينَ أَعْظَمَ الْأَشْيَاءِ، وَلِذَلِكَ يُهْمَلُ فِي جَانِبِهِ النَّفْسُ وَالْمَالُ وَغَيْرُهُمَا، ثُمَّ النَّفْسَ، وَلِذَلِكَ يُهْمَلُ فِي جَانِبِهَا اعْتِبَارُ قِوَامِ النَّسْلِ وَالْعَقْلِ وَالْمَالَ؛ فَيَجُوزُ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِمَنْ أُكْرِهَ بِالْقَتْلِ عَلَى الزِّنَى أَنْ يَقِيَ نَفْسَهُ بِهِ، وَلِلْمَرْأَةِ إِذَا اضْطُرَّتْ وَخَافَتِ الْمَوْتَ وَلَمْ تَجِدْ مَنْ يُطْعِمُهَا إِلَّا بِبَذْلِ بِضْعِهَا جَازَ لَهَا ذَلِكَ، وَهَكَذَا سَائِرُهَا. ثُمَّ إِذَا نَظَرْنَا إِلَى بَيْعِ الْغَرَرِ مَثَلًا وَجَدْنَاهُ الْمَفْسَدَةَ فِي الْعَمَلِ [بِهِ] عَلَى مَرَاتِبَ؛ فَلَيْسَ مَفْسَدَةُ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ كَمَفْسَدَةِ بَيْعِ الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ الْحَاضِرَةِ الْآنَ، وَلَا بَيْعِ الْجَنِينِ فِي الْبَطْنِ كَبَيْعِ الْغَائِبِ عَلَى الصِّفَةِ وَهُوَ مُمْكِنُ الرُّؤْيَةِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةِ، وَكَذَلِكَ الْمَصَالِحُ فِي التَّوَقِّي عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ؛ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتِ الطَّاعَةُ وَالْمُخَالَفَةُ تُنْتِجُ مِنَ الْمَصَالِحِ أَوِ الْمَفَاسِد أَمْرًا كُلِّيًّا ضَرُورِيًّا؛ كَانَتِ الطَّاعَةُ لَاحِقَةً بِأَرْكَانِ الدِّينِ، وَالْمَعْصِيَةُ كَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَإِنْ لَمْ تُنْتِجْ إِلَّا أَمْرًا جُزْئِيًّا؛ فَطَاعَةٌ لَاحِقَةٌ بِالنَّوَافِلِ وَاللَّوَاحِقِ الْفَضْلِيَّةِ، وَالْمَعْصِيَةُ صَغِيرَةٌ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَلَيْسَتِ الْكَبِيرَةُ فِي نَفْسِهَا مَعَ كُلِّ مَا يُعَدُّ كَبِيرَةً عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ، وَلَا كُلُّ رُكْنٍ مَعَ مَا يُعَدُّ رُكْنًا عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ أَيْضًا، كَمَا أَنَّ الْجُزْئِيَّاتِ فِي الطَّاعَةِ وَالْمُخَالَفَةِ لَيْسَتْ عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ، بَلْ لِكُلٍّ مِنْهَا مَرْتَبَةٌ تَلِيقُ بِهَا.
الْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُكَلَّفِ التَّعَبُّدُ دُونَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي، وَأَصْلُ الْعَادَاتِ الِالْتِفَاتُ إِلَى الْمَعَانِي. أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ: مِنْهَا الِاسْتِقْرَاءُ؛ فَإِنَّا وَجَدْنَا الطَّهَارَةَ تَتَعَدَّى مَحَلَّ مُوجِبِهَا، وَكَذَلِكَ الصَّلَوَاتُ خُصَّتْ بِأَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى هَيْئَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، إِنْ خَرَجَتْ عَنْهَا لَمْ تَكُنْ عِبَادَاتٍ، وَوَجَدْنَا الْمُوجِبَاتِ فِيهَا تَتَّحِدُ مَعَ اخْتِلَافِ الْمُوجِبَاتِ، وَأَنَّ الذِّكْرَ الْمَخْصُوصَ فِي هَيْئَةٍ مَا مَطْلُوبٌ، وَفِي هَيْئَةٍ أُخْرَى غَيْرُ مَطْلُوبٍ، وَأَنَّ طَهَارَةَ الْحَدَثِ مَخْصُوصَةٌ بِالْمَاءِ الطَّهُورِ وَإِنْ أَمْكَنَتِ النَّظَافَةُ بِغَيْرِهِ، وَأَنَّ التَّيَمُّمَ- وَلَيْسَتْ فِيهِ نَظَافَةٌ حِسِّيَّةٌ- يَقُومُ مَقَامَ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ الْمُطَهِّرِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْعِبَادَاتِ؛ كَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَغَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا فَهِمْنَا مِنْ حِكْمَةِ التَّعَبُّدِ الْعَامَّةِ الِانْقِيَادَ لِأَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِفْرَادِهِ بِالْخُضُوعِ، وَالتَّعْظِيمِ لِجَلَالِهِ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَهَذَا الْمِقْدَارُ لَا يُعْطِي عِلَّةً خَاصَّةً يُفْهَمُ مِنْهَا حُكْمٌ خَاصٌّ؛ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُحَدَّ لَنَا أَمْرٌ مَخْصُوصٌ، بَلْ كُنَّا نُؤْمَرُ بِمُجَرَّدِ التَّعْظِيمِ بِمَا حُدَّ وَمَا لَمْ يُحَدَّ، وَلَكَانَ الْمُخَالِفُ لِمَا حُدَّ غَيْرَ مَلُومٍ؛ إِذْ كَانَ التَّعْظِيمُ بِفِعْلِ الْعَبْدِ الْمُطَابِقِ لِنِيَّتِهِ حَاصِلًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ، فَعَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ الْأَوَّلَ التَّعَبُّدُ لِلَّهِ بِذَلِكَ الْمَحْدُودِ، وَأَنَّ غَيْرَهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ شَرْعًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ التَّوْسِعَةَ فِي وُجُوهِ التَّعَبُّدِ بِمَا حُدَّ وَمَا لَمْ يُحَدَّ؛ لَنَصَبَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ دَلِيلًا وَاضِحًا، كَمَا نَصَبَ عَلَى التَّوْسِعَةِ فِي وُجُوهِ الْعَادَاتِ أَدِلَّةً لَا يُوقَفُ مَعَهَا عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ دُونَ مَا شَابَهَهُ وَقَارَبَهُ وَجَامَعَهُ فِي الْمَعْنَى الْمَفْهُومِ مِنَ الْأَصْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَلَكَانَ ذَلِكَ يَتَّسِعُ فِي أَبْوَابِ الْعِبَادَاتِ، وَلَمَّا لَمْ نَجِدْ ذَلِكَ كَذَلِكَ بَلْ عَلَى خِلَافِهِ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْوُقُوفُ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَحْدُودِ؛ إِلَّا أَنْ يُتَبَيَّنَ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ مَعْنًى مُرَادٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ؛ فَلَا لَوْمَ عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ، لَكِنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ؛ فَلَيْسَ بِأَصْلٍ، وَإِنَّمَا الْأَصْلُ مَا عَمَّ فِي الْبَابِ وَغَلَبَ فِي الْمَوْضِعِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْمُنَاسِبَ فِيهَا مَعْدُودٌ عِنْدَهُمْ فِيمَا لَا نَظِيرَ لَهُ؛ كَالْمَشَقَّةِ فِي قَصْرِ الْمُسَافِرِ وَإِفْطَارِهِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَإِلَى هَذَا؛ فَأَكْثَرُ الْعِلَلِ الْمَفْهُومَةِ الْجِنْسِ فِي أَبْوَابِ الْعِبَادَاتِ غَيْرُ مَفْهُومَةِ الْخُصُوصِ؛ كَقَوْلِه: «سَهَا فَسَجَدَ»، وَقَوْلِه: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ»، وَنَهْيِهِ عَنْ الصَّلَاةِ طَرَفَيِ النَّهَارِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَتَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ. وَكَذَلِكَ مَا يَسْتَعْمِلُهُ الْخِلَافِيِّونَ فِي قِيَاسِ الْوُضُوءِ عَلَى التَّيَمُّمِ فِي وُجُوبِ النِّيَّةِ بِأَنَّهَا طَهَارَةٌ تَعَدَّتْ مَحَلَّ مُوجَبِهَا؛ فَتَجِبُ فِيهَا النِّيَّةُ قِيَاسًا عَلَى التَّيَمُّمِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ مُنَاسِبٍ يَصْلُحُ لِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ، بَلْ هُوَ مِنَ الْمُسَمَّى شُبَهًا، بِحَيْثُ لَا يَتَّفِقُ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ الْقَائِلُونَ، وَإِنَّمَا يَقِيسُ بِهِ مَنْ يَقِيسُ بَعْدَ أَنْ لَا يَجِدَ سِوَاهُ، فَإِذَا لَمْ تَتَحَقَّقْ لَنَا عِلَّةٌ ظَاهِرَةٌ تَشْهَدُ لَهَا الْمَسَالِكُ الظَّاهِرَةُ؛ فَالرُّكْنُ الْوَثِيقُ الَّذِي يَنْبَغِي الِالْتِجَاءُ إِلَيْهِ الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حُدَّ، دُونَ التَّعَدِّي إِلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّا وَجَدْنَا الشَّرِيعَةَ حِينَ اسْتَقْرَيْنَاهَا تَدُورُ عَلَى التَّعَبُّدِ فِي بَابِ الْعِبَادَاتُ، فَكَانَ أَصْلًا فِيهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ وُجُوهَ التَّعَبُّدَاتِ فِي أَزْمِنَةِ الْفَتَرَاتِ لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهَا الْعُقَلَاءُ اهْتِدَاءَهُمْ لِوُجُوهِ مَعَانِي الْعَادَاتِ؛ فَقَدْ رَأَيْتُ الْغَالِبَ فِيهِمُ الضَّلَالَ فِيهَا، وَالْمَشْيَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، وَمِنْ ثَمَّ حَصَلَ التَّغْيِيرُ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ لَا يَسْتَقِلُّ بِدَرْكِ مَعَانِيهَا وَلَا بِوَضْعِهَا، فَافْتَقَرْنَا إِلَى الشَّرِيعَةِ فِي ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عُذِرَ أَهْلُ الْفَتَرَاتِ فِي عَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الْإِسْرَاء: 15]. وَقَالَ تَعَالَى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النِّسَاء: 165]. وَالْحُجَّةُ هَاهُنَا هِيَ الَّتِي أَثْبَتَهَا الشَّرْعُ فِي رَفْعِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الرُّجُوعِ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَى مُجَرَّدِ مَا حَدَّهُ الشَّارِعُ، وَهُوَ مَعْنَى التَّعَبُّدِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْوَاقِفُ مَعَ مُجَرَّدِ الِاتِّبَاعِ فِيهِ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، وَأَجْرَى عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَهُوَ رَأْيُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ إِذْ لَمْ يَلْتَفِتْ فِي رَفْعِ الْأَحْدَاثِ إِلَى مُجَرَّدِ النَّظَافَةِ حَتَّى اشْتَرَطَ النِّيَّةَ وَالْمَاءَ الْمُطْلَقَ وَإِنْ حَصَلَتِ النَّظَافَةُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَامْتَنَعَ مِنْ إِقَامَةِ غَيْرِ التَّكْبِيرِ مَقَامَهُ، وَالتَّسْلِيمِ كَذَلِكَ، وَمَنَعَ مِنْ إِخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى مُجَرَّدِ الْعَدَدِ فِي الْكَفَّارَاتِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُبَالَغَاتِهِ الشَّدِيدَةِ فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَى مَحْضِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوْ مَا مَاثَلَهُ؛ فَيَجِبُ أَنَّ يُؤْخَذَ فِي هَذَا الضَّرْبِ التَّعَبُّدُ دُونَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي أَصْلًا يُبْنَى عَلَيْهِ، وَرُكْنًا يُلْجَأُ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَادَاتِ الِالْتِفَاتُ إِلَى الْمَعَانِي؛ فَلِأُمُورٍ: أَوَّلُهَا الِاسْتِقْرَاءُ؛ فَإِنَّا وَجَدْنَا الشَّارِعَ قَاصِدًا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَالْأَحْكَامُ الْعَادِيَّةُ تَدُورُ [مَعَهُ] حَيْثُمَا دَارَ؛ فَتَرَى الشَّيْءَ الْوَاحِدَ يُمْنَعُ فِي حَالٍ لَا تَكُونُ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، فَإِذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ جَازَ؛ كَالدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمِ إِلَى أَجَلٍ، يَمْتَنِعُ فِي الْمُبَايَعَةِ، وَيَجُوزُ فِي الْقَرْضِ، وَبَيْعِ الرَّطْبِ بِالْيَابِسِ، يَمْتَنِعُ حَيْثُ يَكُونُ مُجَرَّدَ غَرَرٍ وَرِبَا مِنْ غَيْرِ مَصْلَحَةٍ، وَيَجُوزُ إِذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ، وَلَمْ نَجِدْ هَذَا فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ مَفْهُومًا كَمَا فَهِمْنَاهُ فِي الْعَادَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [الْبَقَرَة: 179]. وَقَالَ: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [الْبَقَرَة: 188]. وَفِي الْحَدِيث: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانٌ». وَقَالَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ». وَقَالَ: «الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ». «وَنَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ». وَقَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ». وَفِي الْقُرْآن: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الْآيَةَ [الْمَائِدَة: 91]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى، وَجَمِيعُهُ يُشِيرُ بَلْ يُصَرِّحُ بِاعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ لِلْعِبَادِ، وَأَنَّ الْإِذْنَ دَائِرٌ مَعَهَا أَيْنَمَا دَارَتْ، حَسْبَمَا بَيَّنَتْهُ مَسَالِكُ الْعِلَّةِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَادَاتِ مِمَّا اعْتَمَدَ الشَّارِعُ فِيهَا الِالْتِفَاتَ إِلَى الْمَعَانِي. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّارِعَ تَوَسَّعَ فِي بَيَانِ الْعِلَلِ وَالْحِكَمَ فِي تَشْرِيعِ بَابِ الْعَادَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ تَمْثِيلُهُ، وَأَكْثَرُ مَا عَلَّلَ فِيهَا بِالْمُنَاسِبِ الَّذِي إِذَا عُرِضَ عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ؛ فَفَهِمْنَا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ قَصَدَ فِيهَا اتِّبَاعَ الْمَعَانِي، لَا الْوُقُوفَ مَعَ النُّصُوصِ، بِخِلَافِ بَابِ الْعِبَادَاتِ؛ فَإِنَّ الْمَعْلُومَ فِيهِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَقَدْ تَوَسَّعَ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ حَتَّى قَالَ فِيهِ بِقَاعِدَةِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَقَالَ فِيهِ بِالِاسْتِحْسَانِ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعِلْمِ، حَسْبَمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالثَّالِثُ: إِنَّ الِالْتِفَاتَ إِلَى الْمَعَانِي قَدْ كَانَ مَعْلُومًا فِي الْفَتَرَاتِ، وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ؛ حَتَّى جَرَتْ بِذَلِكَ مَصَالِحُهُمْ، وَأَعْمَلُوا كُلِّيَّاتِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَاطَّرَدَتْ لَهُمْ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْحِكْمَةِ الْفَلْسَفِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ؛ إِلَّا أَنَّهُمْ قَصَّرُوا فِي جُمْلَةٍ مِنَ التَّفَاصِيلِ؛ فَجَاءَتِ الشَّرِيعَةُ لِتُتِمَّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَاتِ فِي هَذَا الْبَابِ جَاءَتْ مُتَمِّمَةً لِجَرَيَانِ التَّفَاصِيلِ فِي الْعَادَاتِ عَلَى أُصُولِهَا الْمَعْهُودَاتِ، وَمِنْ هَاهُنَا أَقَرَّتْ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ جُمْلَةً مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي جَرَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ كَالدِّيَةِ، وَالْقِسَامَةِ، وَالِاجْتِمَاعِ يَوْمَ الْعَرُوبَةِ- وَهِيَ الْجُمْعَةُ- لِلْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ، وَالْقِرَاضِ، وَكُسْوَةِ الْكَعْبَةِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ عِنْدَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مَحْمُودًا، وَمَا كَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الْعَوَائِدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي تَقْبَلُهَا الْعُقُولُ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ التَّعَبُّدَاتِ الصَّحِيحَةِ فِي الْإِسْلَامِ أُمُورٌ نَادِرَةٌ مَأْخُوذَةٌ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، وَأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْعَادَاتِ الِالْتِفَاتُ إِلَى الْمَعَانِي؛ فَإِذَا وُجِدَ فِيهَا التَّعَبُّدُ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّسْلِيمِ وَالْوُقُوفِ مَعَ الْمَنْصُوصِ؛ كَطَلَبِ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ، وَالذَّبْحِ فِي [الْمَحَلِّ الْمَخْصُوصِ فِي] الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ، وَالْفُرُوضِ الْمُقَدَّرَةِ فِي الْمَوَارِيثِ، وَعَدَدِ الْأَشْهُرِ فِي الْعِدَدِ الطَّلَاقِيَّةِ وَالْوَفَوِيَّةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا مَجَالَ لِلْعُقُولِ فِي فَهْمِ مَصَالِحِهَا الْجُزْئِيَّةِ؛ حَتَّى يُقَاسَ عَلَيْهَا غَيْرُهَا؛ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي النِّكَاحِ مِنَ الْوَلِيِّ وَالصَّدَاقِ وَشِبْهِ ذَلِكَ؛ لِتَمْيِيزِ النِّكَاحِ عَنِ السِّفَاحِ، وَأَنَّ فُرُوضَ الْمَوَارِيثِ تَرَتَّبَتْ عَلَى تَرْتِيبِ الْقُرْبَى مِنَ الْمَيِّتِ، وَأَنَّ الْعِدَدَ وُالِاسْتِبْرَاءَاتِ الْمُرَادُ بِهَا اسْتِبْرَاءُ الرَّحِمِ خَوْفًا مِنْ اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ، وَلَكِنَّهَا أُمُورٌ جُمْلِيَّةٌ؛ كَمَا أَنَّ الْخُضُوعَ وَالتَّعْظِيمَ وَالْإِجْلَالَ عِلَّةُ شَرْعِ الْعِبَادَاتِ، وَهَذَا الْمِقْدَارُ لَا يَقْضِي بِصِحَّةِ الْقِيَاسِ عَلَى الْأَصْلِ فِيهَا، بِحَيْثُ يُقَالُ: إِذَا حَصَلَ الْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالسِّفَاحِ بِأُمُورٍ أُخَرَ مَثَلًا لَمْ تُشْتَرَطْ تِلْكَ الشُّرُوطُ، وَمَتَى عُلِمَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ لَمْ تُشْرَعِ الْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ وَلَا بِالْأَشْهُرِ، وَلَا مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: وَهَلْ تُوجَدُ لِهَذِهِ الْأُمُورِ التَّعَبُّدِيَّاتِ عِلَّةٌ يُفْهَمُ مِنْهَا مَقْصِدَ الشَّارِعِ عَلَى الْخُصُوصِ أَمْ لَا؟ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: أَمَّا أُمُورُ التَّعَبُّدَاتِ؛ فَعِلَّتُهَا الْمَطْلُوبَةُ مُجَرَّدُ الِانْقِيَادِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَلِذَلِكَ لَمَّا سُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ قَضَاءِ الْحَائِضِ الصَّوْمَ دُونَ الصَّلَاةِ؛ قَالَتْ لِلسَّائِلَة: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ إِنْكَارًا عَلَيْهَا أَنْ يُسْئَلَ عَنْ مِثْلِ هَذَا؛ إِذْ لَمْ يُوضَعْ التَّعَبُّدُ أَنْ تَفْهَمَ عِلَّتَهُ الْخَاصَّةَ، ثُمَّ قَالَتْ: «كُنَّا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ»، وَهَذَا يُرَجِّحُ التَّعَبُّدَ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْمَشَقَّةِ، وَقَوْلُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ فِي مَسْأَلَةِ تَسْوِيَةِ الشَّارِعِ بَيْنَ دِيَةِ الْأَصَابِع: هِيَ السُّنَةُ يَا ابْنَ أَخِي، وَهُوَ كَثِيرٌ، وَمَعْنَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ لَا عِلَّةَ. وَأَمَّا الْعَادِيَّاتُ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَيْضًا؛ فَلَهَا مَعْنًى مَفْهُومٌ، وَهُوَ ضَبْطُ وَجُوهِ الْمَصَالِحِ، إِذْ لَوْ تُرِكَ النَّاسُ وَالنَّظَرُ لَانْتَشَرَ وَلَمْ يَنْضَبِطْ، وَتَعَذَّرَ الرُّجُوعُ إِلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ، وَالضَّبْطُ أَقْرَبُ إِلَى الِانْقِيَادِ مَا وُجِدَ إِلَيْهِ سَبِيلٌ، فَجَعَلَ الشَّارِعُ لِلْحُدُودِ مَقَادِيرَ مَعْلُومَةً، وَأَسْبَابًا مَعْلُومَةً لَا تَتَعَدَّى؛ كَالثَّمَانِينَ فِي الْقَذْفِ، وَالْمِائَةِ وَتَغْرِيبِ الْعَامِ فِي الزِّنَا عَلَى غَيْرِ إِحْصَانٍ، وَخَصَّ قَطْعَ الْيَدِ بِالْكُوعِ وَفِي النِّصَابِ الْمُعَيَّنِ، وَجَعَلَ مَغِيبَ الْحَشَفَةِ حَدًّا فِي أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ، وَكَذَلِكَ الْأَشْهُرُ وَالْقُرُوءُ فِي الْعِدَدِ، وَالنِّصَابِ وَالْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ، وَمَا لَا يَنْضَبِطُ رُدَّ إِلَى أَمَانَاتِ الْمُكَلَّفِينَ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالسَّرَائِرِ؛ كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَيْضِ، وَالطُّهْرِ، وَسَائِرِ مَا لَا يُمْكِنُ رُجُوعُهُ إِلَى أَصْلٍ مُعَيَّنٍ ظَاهِرٍ؛ فَهَذَا مِمَّا قَدْ يُظَنُّ الْتِفَاتُ الشَّارِعِ إِلَى الْقَصْدِ إِلَيْهِ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يُشِيرُ أَصْلُ سَدِّ الذَّرَائِعِ؛ لَكِنْ لَهُ نَظَرَان: نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ تَشَعُّبِهِ وَانْتِشَارِ وُجُوهِهِ إِذَا تَتَبَّعْنَاهُ، كَمَا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ مَثَلًا، مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ التَّكْلِيفَاتِ ثَبَتَ كَوْنُهَا مَوْكُولَةً إِلَى أَمَانَةِ الْمُكَلَّفِ؛ فَعَلَى هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَفَتَ مِنْهُ إِلَّا إِلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. وَنَظَرَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ لَهُ ضَوَابِطَ قَرِيبَةَ الْمَأْخَذِ وَإِنِ انْتَشَرَتْ فُرُوعُهُ، وَقَدْ فُهِمَ مِنَ الشَّرْعِ الِالْتِفَاتُ إِلَى كُلِّيِّهِ، فَلْيَجْرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فِي مَظَانِّهِ، وَقَدْ مَنَعَ الشَّارِعُ مِنْ أَشْيَاءَ مِنْ جِهَةِ جَرِّهَا إِلَى مَنْهِيٍّ عَنْهُ وَالتَّوَسُّلِ بِهَا إِلَيْهِ، وَهُوَ أَصْلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ قَدْ اعْتَبَرَهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ؛ فَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِهِ، وَمِنَ النَّاسِ مِنْ تَوَسَّطَ بِنَظَرٍ ثَالِثٍ؛ فَخَصَّ هَذَا الْمُخْتَلَفَ فِيهِ بِالظَّاهِرِ، فَسَلَّطَ الْحُكَّامَ عَلَى مَا اطَّلَعُوا عَلَيْهِ مِنْهُ ضَبْطًا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَوَكَّلَ مَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ إِلَى أَمَانَتِهِ.
كُلُّ مَا ثَبَتَ فِيهِ اعْتِبَارُ التَّعَبُّدِ؛ فَلَا تَفْرِيعَ فِيهِ، وَكُلُّ مَا ثَبَتَ فِيهِ اعْتِبَارُ الْمَعَانِي دُونَ التَّعَبُّدِ؛ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنِ اعْتِبَارِ التَّعَبُّدِ لِأَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَى الِاقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ لَازِمٌ لِلْمُكَلَّفِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُكَلَّفٌ، عَرَفَ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ شُرِعَ الْحُكْمُ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ، بِخِلَافِ اعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ فَإِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ؛ فَإِنَّهُ عَبْدٌ مُكَلَّفٌ، فَإِذَا أَمَرَهُ سَيِّدُهُ لَزِمَهُ امْتِثَالُ أَمْرِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ، بِخِلَافِ الْمَصْلَحَةِ؛ فَإِنَّ اعْتِبَارَهَا غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَبْدٌ مُكَلَّفٌ عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالتَّعَبُّدُ لَازِمٌ لَا خِيَرَةَ فِيهِ، وَاعْتِبَارُ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ الْخِيَرَةُ، وَمَا فِيهِ الْخِيَرَةُ يَصِحُّ تَخَلُّفُهُ عَقْلًا، وَإِذَا وَقَعَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ شَرْعًا لَمْ يَصِحَّ تَخَلُّفُهُمَا عَقْلًا؛ فَإِنَّهُ مُحَالٌ فَالتَّعَبُّدُ بِالِاقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ لَازِمٌ بِإِطْلَاقٍ، وَاعْتِبَارُ الْمَصَالِحِ غَيْرُ لَازِمٍ بِإِطْلَاقٍ، خِلَافًا لِمَنْ أَلْزَمَ اللُّطْفَ وَالْأَصْلَحَ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّهُ لَازِمٌ عَلَى رَأْيِ مَنْ أَلْزَمَ الْأَصْلَحَ وَقَالَ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ؛ فَإِنَّ السَّيِّدَ إِذَا أَمَرَ عَبْدَهُ لِأَجْلِ مَصْلَحَةٍ هِيَ عِلَّةُ الْأَمْرِ بِالْعَقْلِ؛ يَلْزَمُ الِامْتِثَالَ مِنْ حَيْثُ مُجَرَّدِ الْأَمْرِ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُ قَبِيحَةٌ، وَمِنْ جِهَةِ اعْتِبَارِ الْمَصْلَحَةِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ تَحْصِيلَهَا وَاجِبٌ عَقْلًا بِالْفَرْضِ، فَالْأَمْرَانِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ لَازِمَانِ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إِنَّ مُخَالَفَةَ الْعَبْدِ أَمْرَ سَيِّدِهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْمَصْلَحَةِ غَيْرُ قَبِيحٍ، بَلْ هُوَ قَبِيحٌ عَلَى رَأْيِهِمْ وَهُوَ مَعْنَى لُزُومِ التَّعَبُّدِ. وَالثَّانِي: أَنَّا إِذَا فَهِمْنَا بِالِاقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ حِكْمَةً مُسْتَقِلَّةً فِي شَرْعِ الْحُكْمِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ ثَمَّ حِكْمَةٌ أُخْرَى وَمَصْلَحَةٌ ثَانِيَةٌ وَثَالِثَةٌ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَغَايَتُنَا أَنَّا فَهِمْنَا مَصْلَحَةً دُنْيَوِيَّةً تَصْلُحُ أَنْ تَسْتَقِلَّ بِشَرْعِيَّةِ الْحُكْمِ؛ فَاعْتَبَرْنَاهَا بِحُكْمِ الْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ، وَلَمْ نَعْلَمْ حَصْرَ الْمَصْلَحَةِ وَالْحُكْمِ بِمُقْتَضَاهَا فِي ذَلِكَ الَّذِي ظَهَرَ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَنَا بِذَلِكَ عِلْمٌ وَلَا ظَنٌّ؛ لَمْ يَصِحَّ لَنَا الْقَطْعُ بِأَنَّ لَا مَصْلَحَةَ لِلْحُكْمِ إِلَّا مَا ظَهَرَ لَنَا، إِذْ هُوَ قَطْعٌ عَلَى غَيْبٍ بِلَا دَلِيلٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ؛ فَقَدْ بَقِيَ لَنَا إِمْكَانُ حِكْمَةٍ أُخْرَى شُرِعَ لَهَا الْحُكْمُ؛ فَصِرْنَا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ وَاقِفِينَ مَعَ التَّعَبُّدِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمْ نَقْضِ بِالتَّعَدِّي عَلَى حَالٍ، فَإِنَّا إِذَا جَوَّزْنَا وُجُودَ حِكْمَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ أُخْرَى؛ لَمْ نَجْزِمْ بِأَنَّ الْحُكْمَ لَهَا فَقَطْ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ جُزْءَ عِلَّةٍ أَوْ لِجَوَازِ الْفَرْعِ عَنْ تِلْكَ الْحِكْمَةِ الَّتِي جَهِلْنَاهَا وَإِنْ وُجِدَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ الَّتِي عَلِمْنَاهَا، فَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَصِحَّ الْإِلْحَاقُ وَالتَّفْرِيعُ حَتَّى نَتَحَقَّقَ أَنْ لَا عِلَّةَ سِوَى مَا ظَهَرَ وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ؛ فَكَذَلِكَ لَا سَبِيلَ إِلَى الْقِيَاسِ وَلَا الْقَضَاءِ بِأَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مَشْرُوعٌ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالتَّعَدِّي لَا يُنَافِي جَوَازَ التَّعَبُّدِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ قَدْ صَحَّ كَوْنُهُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا، وَلَا يَكُونُ شَرْعِيًّا إِلَّا عَلَى وَجْهٍ نَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ عَادَةً، وَذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ لَنَا عِلَّةٌ تَصْلُحُ لِلِاسْتِقْلَالِ بِشَرْعِيَّةِ الْحُكْمِ، وَلَمْ نُكَلَّفْ أَنْ نَنْفِيَ مَا عَدَاهَا؛ فَإِنَّ الْأُصُولِيِّينَ مِمَّا يُجَوِّزُونَ كَوْنَ الْعِلَّةِ خِلَافَ مَا ظَهَرَ لَهُمْ، أَوْ كَوْنَ ذَلِكَ الظَّاهِرِ جُزْءَ عِلَّةٍ لَا عِلَّةً كَامِلَةً، لَكِنْ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِأَنَّ مَا ظَهَرَ مُسْتَقِلٌّ بِالْعِلِّيَّةِ، أَوْ صَالِحٌ لِكَوْنِهِ عِلَّةً، كَافٍ فِي تَعَدِّي الْحُكْمِ بِهِ. وَأَيْضًا؛ فَقَدَ أَجَازَ الْجُمْهُورُ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِأَكْثَرِ مِنْ عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَكُلٌّ مِنْهَا مُسْتَقِلٌّ، وَجَمِيعُهَا مَعْلُومٌ؛ فَنُعَلِّلُ بِإِحْدَاهَا مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْأُخْرَى وَبِالْعَكْسِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ الْقِيَاسَ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ الْأُخْرَى فِي الْفَرْعِ أَوْ لَا تَكُونَ فِيهِ، وَإِذَا لَمْ يُمْنَعْ ذَلِكَ فِيمَا ظَهَرَ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُمْنَعَ فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، لَمْ يَبْقَ لِلسُّؤَالِ مَوْرِدٌ؛ فَالظَّاهِرُ هُوَ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ، وَلَا عَلَيْنَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ؛ أَنَّ الْمَصَالِحَ فِي التَّكْلِيفِ ظَهَرَ لَنَا مِنَ الشَّارِعِ أَنَّهَا عَلَى ضَرْبَيْن: أَحَدُهُمَا: مَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِمَسَالِكِهِ الْمَعْرُوفَةِ؛ كَالْإِجْمَاعِ، وَالنَّصِّ، وَالْإِشَارَةِ، وَالسَّبْرِ، وَالْمُنَاسَبَةِ، وَغَيْرِهَا.. وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي نُعَلِّلُ بِهِ، وَنَقُولُ: إِنَّ شَرْعِيَّةَ الْأَحْكَامِ لِأَجْلِهِ. وَالثَّانِي مَا لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِتِلْكَ الْمَسَالِكِ الْمَعْهُودَةِ، وَلَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْوَحْيِ؛ كَالْأَحْكَامِ الَّتِي أَخْبَرَ الشَّارِعُ فِيهَا أَنَّهَا أَسْبَابٌ لِلْخِصْبِ وَالسِّعَةِ وَقِيَامِ أُبَّهَةِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ الَّتِي أَخْبَرَ فِي مُخَالَفَتِهَا أَنَّهَا أَسْبَابُ الْعُقُوبَاتِ وَتَسْلِيطِ الْعَدُوِّ، وَقَذْفِ الرُّعْبِ، وَالْقَحْطِ، وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ. وَإِذَا كَانَ مَعْلُومًا مِنَ الشَّرِيعَةِ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ أَنَّ ثَمَّ مَصَالِحَ أُخَرَ غَيْرَ مَا يُدْرِكُهُ الْمُكَلَّفُ؛ لَا يُقْدَرُ عَلَى اسْتِنْبَاطِهَا وَلَا عَلَى التَّعْدِيَةِ بِهَا فِي مَحَلٍّ آخَرَ؛ إِذْ لَا يُعْرَفُ كَوْنُ الْمَحَلِّ الْآخَرِ وَهُوَ الْفَرْعُ وُجِدَتْ فِيهِ تِلْكَ الْعِلَّةُ الْبَتَّةَ، لَمْ يَكُنْ إِلَى اعْتِبَارِهَا فِي الْقِيَاسِ سَبِيلٌ؛ فَبَقِيَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى التَّعَبُّدِ الْمَحْضِ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لِلْأَصْلِ الْمُعَلَّلِ بِهَا شَبِيهٌ إِلَّا مَا دَخَلَ تَحْتَ الْإِطْلَاقِ أَوِ الْعُمُومِ الْمُعَلَّلِ، وَإِذْ ذَاكَ يَكُونُ أَخْذُ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ بِهَا مُتَعَبَّدًا بِهِ، وَمَعْنَى التَّعَبُّدِ بِهِ الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حَدَّ الشَّارِعُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ السَّائِلَ إِذَا قَالَ لِلْحَاكِم: لِمَ لَا تَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ؟ فَأَجَابَ بِأَنِّي نُهِيتُ عَنْ ذَلِكَ؛ كَانَ مُصِيبًا، كَمَا أَنَّهُ إِذَا قَالَ: لِأَنَّ الْغَضَبَ يُشَوِّشُ عَقْلِي وَهُوَ مَظِنَّةُ عَدَمِ التَّثَبُّتِ فِي الْحُكْمِ؛ كَانَ مُصِيبًا أَيْضًا، وَالْأَوَّلُ جَوَابُ التَّعَبُّدِ الْمَحْضِ، وَالثَّانِي جَوَابُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعْنَى، وَإِذَا جَازَ اجْتِمَاعُهُمَا وَعَدَمُ تَنَافِيهِمَا؛ جَازَ الْقَصْدُ إِلَى التَّعَبُّدِ، وَإِذَا جَازَ الْقَصْدُ إِلَى التَّعَبُّدِ دَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَالِكَ تَعَبُّدًا، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ تَوَجُّهُ الْقَصْدِ إِلَى مَا لَا يَصِحُّ الْقَصْدُ إِلَيْهِ مِنْ مَعْدُومٍ أَوْ مُمْكِنٍ أَنْ يُوجَدَ أَوْ لَا يُوجَدَ، فَلَمَّا صَحَّ الْقَصْدُ مُطْلَقًا؛ صَحَّ الْمَقْصُودُ لَهُ مُطْلَقًا، وَذَلِكَ جِهَةُ التَّعَبُّدِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ كَوْنَ الْمُصْلِحَةِ مُصْلِحَةٌ تُقْصَدُ بِالْحُكْمِ، وَالْمَفْسَدَةِ مَفْسَدَةٌ كَذَلِكَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالشَّارِعِ، لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهِ، بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ نَفْيِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ قَدْ شَرَعَ الْحُكْمَ لِمَصْلَحَةٍ مَا؛ فَهُوَ الْوَاضِعُ لَهَا مَصْلَحَةً، وَإِلَّا؛ فَكَانَ يُمْكِنُ عَقْلًا أَنْ لَا تَكُونَ كَذَلِكَ، إِذِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَضْعِهَا الْأَوَّلِ مُتَسَاوِيَةٌ لَا قَضَاءَ لِلْعَقْلِ فِيهَا بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ، فَإِذًا كَوْنُ الْمَصْلَحَةِ مَصْلَحَةً هُوَ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ بِحَيْثُ يُصَدِّقُهُ الْعَقْلُ وَتَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ النَّفْسُ، فَالْمَصَالِحُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَصَالِحُ قَدْ آلَ النَّظَرُ فِيهَا إِلَى أَنَّهَا تَعَبُّدِيَّاتٌ، وَمَا انْبَنَى عَلَى التَّعَبُّدِيِّ لَا يَكُونُ إِلَّا تَعَبُّدِيًّا. وَمِنْ هُنَا يَقُولُ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ مِنَ التَّكَالِيفِ مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ خَاصَّةً، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى التَّعَبُّدِ، وَمَا هُوَ حَقٌّ لِلْعَبْدِ، وَيَقُولُونَ فِي هَذَا الثَّانِي: إِنَّ فِيهِ حَقًّا لِلَّهِ، كَمَا فِي قَاتِلِ الْعَمْدِ إِذَا عُفِيَ عَنْهُ ضُرِبَ مِائَةً وَسُجِنَ عَامًا، وَفِي الْقَاتِلِ غِيلَةً إِنَّهُ لَا عَفْوَ فِيهِ، وَفِي الْحُدُودِ إِذَا بَلَغَتِ السُّلْطَانَ فِيمَا سِوَى الْقِصَاصِ كَالْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ لَا عَفْوَ فِيهِ وَإِنْ عَفَا مَنْ لَهُ الْحَقُّ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْ بَائِعِ الْجَارِيَةِ إِسْقَاطُ الْمُوَاضَعَةِ وَلَا مِنْ مُسْقِطِ الْعِدَّةِ عَنْ مُطَلِّقِ الْمَرْأَةِ، وَإِنْ كَانَتْ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا حَقًّا لَهُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى اعْتِبَارِ التَّعَبُّدِ وَإِنْ عُقِلَ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ شُرِعَ الْحُكْمُ؛ فَقَدْ صَارَ إِذًا كُلُّ تَكْلِيفٍ حَقًّا لِلَّهِ، فَإِنَّ مَا هُوَ لِلَّهِ؛ فَهُوَ لِلَّهِ، وَمَا كَانَ لِلْعَبْدِ؛ فَرَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ مِنْ جِهَةِ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِ حَقِّ الْعَبْدِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ؛ إِذْ كَانَ لِلَّهِ أَنْ لَا يَجْعَلَ لِلْعَبْدِ حَقًّا أَصْلًا. وَمِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاء: إِنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ بِإِطْلَاقٍ، عُلِمَتْ مَفْسَدَةُ النَّهْيِ أَمْ لَا، انْتَفَى السَّبَبُ الَّذِي لِأَجْلِهِ نُهِيَ عَنِ الْعَمَلِ أَوْ لَا، وُقُوفًا مَعَ نَهْيِ النَّاهِي لِأَنَّهُ حَقُّهُ، وَالِانْتِهَاءُ هُوَ الْقَصْدُ الشَّرْعِيُّ فِي النَّهْيِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ؛ فَالْعَمَلُ بَاطِلٌ بِإِطْلَاقٍ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ تَكْلِيفٍ لَا يَخْلُو عَنِ التَّعَبُّدِ، وَإِذَا لَمْ يَخْلُ؛ فَهُوَ مِمَّا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ كَالطَّهَارَاتِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ. إِلَّا أَنَّ التَّكَالِيفَ الَّتِي فِيهَا حَقُّ الْعَبْدِ مِنْهَا مَا يَصِحُّ بِدُونِ نِيَّةٍ، وَهِيَ الَّتِي فَهِمْنَا مِنَ الشَّارِعِ فِيهَا تَغْلِيبَ جَانِبِ الْعَبْدِ؛ كَرَدِّ الْوَدَائِعِ وَالْمَغْصُوبِ وَالنَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَذَلِكَ مَا فَهِمْنَا فِيهِ تَغْلِيبَ حَقِّ اللَّهِ؛ كَالزَّكَاةِ، وَالذَّبَائِحِ، وَالصَّيْدِ، وَالَّتِي تَصِحُّ بِدُونِ نِيَّةٍ إِذَا فُعِلَتْ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَا يُثَابُ عَلَيْهَا؛ فَإِنْ فَعَلَهَا بِنِيَّةِ الِامْتِثَالِ وَهِيَ نِيَّةُ التَّعَبُّدِ أُثِيبَ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ التُّرُوكُ إِذَا تُرِكَتْ بِنِيَّةٍ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَتْ حُقُوقًا لِلْعِبَادِ خَاصَّةً وَلَمْ يَكُنْ لِلَّهِ فِيهِ حَقٌّ، لَمَا حَصَلَ الثَّوَابُ فِيهَا أَصْلًا؛ لِأَنَّ حُصُولَ الثَّوَابِ فِيهَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهَا طَاعَةً مِنْ حَيْثُ هِيَ مُكْتَسَبَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا، وَالْمَأْمُورُ بِهِ مُتَقَرَّبٌ إِلَى اللَّهِ بِهِ، وَكُلُّ طَاعَةٍ مِنْ حَيْثُ هِيَ طَاعَةٌ لِلَّهِ عِبَادَةٌ، وَكُلُّ عِبَادَةٍ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى نِيَّةٍ؛ فَهَذِهِ الْأُمُورُ مِنْ حَيْثُ هِيَ طَاعَةٌ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى نِيَّةٍ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أُمِرَ بِهَا مِنْ حَيْثُ حَقِّ الْعَبْدِ خَاصَّةً، وَمِنْ جِهَةِ حَقِّ الْعَبْدِ حَصَلَ فِيهَا الثَّوَابُ، لَا مِنْ كَوْنِهَا طَاعَةً مُتَقَرَّبًا بِهَا. قِيلَ: هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ؛ لَصَحَّ الثَّوَابُ بِدُونِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ حَاصِلٌ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، لَكِنَّ الثَّوَابَ مُفْتَقِرٌ فِي حُصُولِهِ إِلَى نِيَّةٍ. وَأَيْضًا؛ فَلَوْ حَصَلَ الثَّوَابُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، لَأُثِيبَ الْغَاصِبُ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ الْمَغْصُوبَ كُرْهًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ وَإِنْ حَصَلَ حَقُّ الْعَبْدِ؛ فَالصَّوَابُ أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي كَوْنِ الْعَمَلِ عِبَادَةً، وَالنِّيَّةُ الْمُرَادَةُ هُنَا نِيَّةُ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا جَارِيًا فِي كُلِّ فِعْلٍ وَتَرْكٍ؛ ثَبَتَ أَنَّ فِي الْأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِ بِهَا طَلَبًا تَعَبُّدِيًّا عَلَى الْجُمْلَةِ. وَهُوَ دَلِيلٌ سَادِسٌ فِي الْمَسْأَلَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَفْتَقِرَ كُلُّ عَمَلٍ إِلَى نِيَّةٍ، وَأَنْ لَا يَصِحَّ عَمَلُ مَنْ لَمْ يَنْوِ، أَوْ يَكُونَ عَاصِيًا. قِيلَ: قَدْ مَرَّ أَنَّ مَا فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ تَارَةً يَكُونُ هُوَ الْمُغَلَّبَ، وَقَدْ تَكُونُ جِهَةُ التَّعَبُّدِ هِيَ الْمُغَلَّبَةَ، فَمَا كَانَ الْمُغَلَّبُ فِيهِ التَّعَبُّدُ؛ فَمُسَلَّمٌ ذَلِكَ فِيهِ، وَمَا غُلِّبَ فِيهِ جِهَةُ الْعَبْدِ؛ فَحَقُّ الْعَبْدِ يَحْصُلُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ؛ فَيَصِحُّ الْعَمَلُ هُنَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَلَا يَكُونُ عِبَادَةً لِلَّهِ، فَإِنْ رَاعَى جِهَةَ الْأَمْرِ؛ فَهُوَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ عِبَادَةٌ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نِيَّةٍ؛ أَيْ لَا يَصِيرُ عِبَادَةً إِلَّا بِالنِّيَّةِ لَا أَنَّهُ يَلْزَمُ فِيهِ النِّيَّةُ أَوْ يَفْتَقِرُ إِلَيْهَا، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّ النِّيَّةَ فِي الِامْتِثَالِ صَيَّرَتْهُ عِبَادَةً؛ كَمَا إِذَا أَقْرَضَ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ بِالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ، أَوْ أَقْرَضَ بِقَصْدٍ دُنْيَوِيٍّ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ، وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، وَالنِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ، وَغَيْرُهَا.. وَمِنْ هُنَا كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُثَابِرُونَ عَلَى إِحْضَارِ النِّيَّاتِ فِي الْأَعْمَالِ، وَيَتَوَقَّفُونَ عَنْ جُمْلَةٍ مِنْهَا حَتَّى تَحْضُرَهُمْ.
وَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا أُمُورٌ، مِنْهَا أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَيْسَ بِخَالٍ عَنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ جِهَةُ التَّعَبُّدِ؛ فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَعِبَادَتُهُ امْتِثَالُ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ بِإِطْلَاقٍ، فَإِنْ جَاءَ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ حَقٌّ لِلْعَبْدِ مُجَرَّدًا؛ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ جَاءَ عَلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الْعَبْدِ فِي الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ. كَمَا أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ؛ فَفِيهِ حَقٌّ لِلْعِبَادِ إِمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْحَدِيث: «حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا عَبَدُوهُ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ»، وَعَادَتُهُمْ فِي تَفْسِيرِ حَقِّ اللَّهِ؛ أَنَّهُ مَا فُهِمَ مِنَ الشَّرْعِ أَنَّهُ لَا خِيَرَةَ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ، كَانَ لَهُ مَعْنًى مَعْقُولٌ أَوْ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مَا كَانَ رَاجِعًا إِلَى مَصَالِحِهِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْأُخْرَوِيَّةِ؛ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ، وَمَعْنَى التَّعَبُّدِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ عَلَى الْخُصُوصِ، وَأَصْلُ الْعِبَادَاتِ رَاجِعَةٌ إِلَى حَقِّ اللَّهِ، وَأَصْلُ الْعَادَاتِ رَاجِعَةٌ إِلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ.
وَالْأَفْعَالُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَقِّ اللَّهِ أَوْ حَقِّ الْآدَمِيِّ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا هُوَ حُقٌّ لِلَّهِ خَالِصًا كَالْعِبَادَاتِ، وَأَصْلُهُ التَّعَبُّدُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا طَابَقَ الْفِعْلُ الْأَمْرَ؛ صَحَّ، وَإِلَّا؛ فَلَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ التَّعَبُّدَ رَاجِعٌ إِلَى عَدَمِ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى، وَبِحَيْثُ لَا يَصِحُّ فِيهِ إِجْرَاءُ الْقِيَاسِ، وَإِذَا لَمْ يُعْقَلُ مَعْنَاهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ فِيهِ الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حَدَّهُ لَا يَتَعَدَّى، فَإِذَا وَقَعَ طَابَقَ قَصْدَ الشَّارِعِ وَإِنْ لَا؛ خَالَفَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُخَالَفَةَ قَصْدِ الشَّارِعِ مُبْطِلٌ لِلْعَمَلِ؛ فَعَدَمُ مُطَابَقَةِ الْأَمْرِ مُبْطِلٌ لِلْعَمَلِ. وَأَيْضًا؛ فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ عَدَمَ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ الْوُقُوفُ عِنْدَمَا حَدَّهُ الشَّارِعُ؛ فَيَكْفِي فِي ذَلِكَ عَدَمُ تَحَقُّقِ الْبَرَاءَةِ مِنْهُ [وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ الْبَرَاءَةُ]، وَعَدَمُ تَحَقُّقِ الْبَرَاءَةِ [مِنْهُ إِنْ لَمْ تَحْصُلْ الْمُطَابَقَةُ، وَعَدَمُ تَحْقِيقِ الْبَرَاءَةِ] مُوجِبٌ لِطَلَبِ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ بِفِعْلٍ مُطَابِقٍ، لَا بِفِعْلٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ. وَالنَّهْيُ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا نَظِيرُ الْأَمْرِ؛ فَإِنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إِمَّا بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ بِإِطْلَاقٍ، وَإِمَّا لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي أَنَّ الْفِعْلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِقَصْدِ الشَّارِعِ؛ إِمَّا بِأَصْلِهِ؛ كَزِيَادَةِ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ، أَوْ تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَإِمَّا بِوَصْفِهِ؛ كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ مَقْصُودًا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ، وَلَأُمِرَ بِهِ أَوْ أُذِنَ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْإِذْنَ هُوَ الْمَعْرُوفُ أَوَّلًا بِقَصْدِ الشَّارِعِ فَلَا تَتَعَدَّاهُ. فَعَلَى هَذَا إِذَا رَأَيْتَ مَنْ يُصَحِّحُ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بَعْدَ الْوُقُوعِ، أَوِ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْ غَيْرِ الْمُطَابِقِ؛ فَذَلِكَ إِمَّا لِعَدَمِ صِحَّةِ الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ عِنْدَهُ، وَإِمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِأَمْرٍ حَتْمٍ وَلَا نَهْيٍ حَتْمٍ، وَإِمَّا لِرُجُوعِ جِهَةِ الْمُخَالَفَةِ إِلَى وَصْفٍ مُنْفَكٍّ؛ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الِانْفِكَاكِ، وَإِمَّا لِعَدِّ النَّازِلَةِ مِنْ بَابِ الْمَفْهُومِ وَالْمَعْنَى الْمُعَلَّلِ بِالْمَصَالِحِ؛ فَيَجْرِي عَلَى حُكْمِهِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ هَذَا قَلِيلٌ، وَأَنَّ التَّعَبُّدَ هُوَ الْعُمْدَةُ. وَالثَّانِي: مَا هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ، وَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ، وَحُكْمُهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ إِذَا صَارَ مُطَّرَحًا شَرْعًا؛ فَهُوَ كَغَيْرِ الْمُعْتَبَرِ، إِذْ لَوِ اعْتُبِرَ لَكَانَ هُوَ الْمُعْتَبَرَ، وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ كَقَتْلِ النَّفْسِ؛ إِذْ لَيْسَ لِلْعَبْدِ خِيَرَةٌ فِي إِسْلَامِ نَفْسِهِ لِلْقَتْلِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ كَالْفِتَنِ وَنَحْوِهَا، فَإِذَا رَأَيْتَ مَنْ يُصَحِّحُ الْمَنْهِيَّ أَوِ الْمَأْمُورَ غَيْرَ الْمُطَابِقِ بَعْدَ الْوُقُوعِ؛ فَذَلِكَ لِلْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، وَلِأَمْرٍ رَابِعٍ وَهُوَ الشَّهَادَةُ بِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ فِيهِ هُوَ الْمُغَلَّبُ. وَالثَّالِثُ: مَا اشْتَرَكَ فِيهِ الْحَقَّانِ وَحَقُّ الْعَبْدِ هُوَ الْمُغَلَّبُ، وَأَصْلُهُ مَعْقُولِيَّةُ الْمَعْنَى، فَإِذَا طَابَقَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي الصِّحَّةِ؛ لِحُصُولِ مَصْلَحَةِ الْعَبْدِ بِذَلِكَ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا حَسْبَمَا يَتَهَيَّأُ لَهُ، وَإِنْ وَقَعَتِ الْمُخَالَفَةُ فَهُنَا نَظَرٌ؛ أَصْلُهُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الْعَبْدِ، فَإِمَّا أَنْ يَحْصُلَ مَعَ ذَلِكَ حَقُّ الْعَبْدِ وَلَوْ بَعْدَ الْوُقُوعِ، عَلَى حَدِّ مَا كَانَ يَحْصُلُ عِنْدَ الْمُطَابَقَةِ أَوْ أَبْلَغَ، أَوْ لَا؛ فَإِنْ فَرَضَ غَيْرَ حَاصِلٍ؛ فَالْعَمَلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ لَمْ يَحْصُلْ، وَإِنْ حَصَلَ- وَلَا يَكُونُ حُصُولُهُ إِلَّا مُسَبِّبًا عَنْ سَبَبٍ آخَرَ غَيْرِ السَّبَبِ الْمُخَالِفِ-؛ صَحَّ وَارْتَفَعَ مُقْتَضَى النَّهْيِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَقِّ الْعَبْدِ، وَلِذَلِكَ يُصَحِّحُ مَالِكٌ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ إِذَا أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لِأَجْلِ فَوْتِ الْعِتْقِ، فَإِذَا حَصَلَ؛ فَلَا مَعْنَى لِلْفَسْخِ عِنْدَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَقِّ الْمَمْلُوكِ، وَكَذَلِكَ يَصِحُّ الْعَقْدُ فِيمَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ إِذَا أَسْقَطَ ذُو الْحَقِّ حَقَّهُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ قَدْ فَرَضْنَاهُ لِحَقِّ الْعَبْدِ، فَإِذَا رَضِيَ بِإِسْقَاطِهِ؛ فَلَهُ ذَلِكَ، وَأَمْثِلَةُ هَذَا الْقِسْمِ كَثِيرَةٌ، فَإِذَا رَأَيْتَ مَنْ يُصَحِّحُ الْعَمَلَ الْمُخَالِفَ بَعْدَ الْوُقُوعِ؛ فَذَلِكَ لِأَحَدِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ.
لَمَّا كَانَتِ الدُّنْيَا مَخْلُوقَةً لِيَظْهَرَ فِيهَا أَثَرُ الْقَبْضَتَيْنِ، وَمَبْنِيَّةً عَلَى بَذْلِ النِّعَمِ لِلْعِبَادِ لِيَنَالُوهَا وَيَتَمَتَّعُوا بِهَا، وَلِيَشْكُرُوا اللَّهَ عَلَيْهَا فَيُجَازِيهِمْ فِي الدَّارِ الْأُخْرَى، حَسْبَمَا بَيَّنَ لَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الشَّرِيعَةُ الَّتِي عَرَّفَتْنَا بِهَذَيْنِ مَبْنِيَّةً عَلَى بَيَانِ وَجْهِ الشُّكْرِ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ، وَبَيَانِ وَجْهِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّعَمِ الْمَبْذُولَةِ مُطْلَقًا. وَهَذَانِ الْقَصْدَانِ أَظْهَرُ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِمَا، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النَّحْل: 78]. وَقَوْلِه: {هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الْمُلْك: 23]. وَقَالَ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [الْبَقَرَة: 152]. وَقَوْلِه: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النَّحْل: 114]. وَقَالَ: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} الْآيَةَ [إِبْرَاهِيمَ: 7]. وَالشُّكْرُ هُوَ صَرْفُ مَا أُنْعِمَ عَلَيْكَ فِي مَرْضَاةِ الْمُنْعِمِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الِانْصِرَافِ إِلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَعْنَى بِالْكُلِّيَّةِ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى مَرْضَاتَهُ بِحَسْبِ الِاسْتِطَاعَةِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا». وَيَسْتَوِي فِي هَذَا مَا كَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَوِ الْعَادَاتِ. أَمَّا الْعِبَادَاتُ؛ فَمِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ؛ فَهِيَ مَصْرُوفَةٌ إِلَيْهِ. وَأَمَّا الْعَادَاتُ؛ فَهِيَ أَيْضًا مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النَّظَرِ الْكُلِّيِّ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} الْآيَةَ [الْأَعْرَاف: 32]. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الْآيَةَ [الْمَائِدَة: 87]. فَنَهَى عَنِ التَّحْرِيمِ، وَجَعَلَهُ تَعَدِّيًا عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا هَمَّ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِتَحْرِيمِ بَعْضِ الْمُحَلَّلَاتِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي؛ فَلَيْسَ مِنِّي». وَذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا وَضَعَهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [الْمَائِدَة: 103]. وَقَوْلِه: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 138]. فَذَمَّهُمْ عَلَى أَشْيَاءَ فِي الْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ اخْتَرَعُوهَا، مِنْهَا مُجَرَّدُ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ هَاهُنَا. وَأَيْضًا؛ فَفِي الْعَادَاتِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ وَجْهِ الْكَسْبِ وَوَجْهِ الِانْتِفَاعِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ مُحَافَظٌ عَلَيْهِ شَرْعًا أَيْضًا، وَلَا خِيَرَةَ فِيهِ لِلْعَبْدِ؛ فَهُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى صَرْفًا فِي حَقِّ الْغَيْرِ؛ حَتَّى يَسْقُطَ حَقُّهُ بِاخْتِيَارِهِ فِي بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ، لَا فِي الْأَمْرِ الْكُلِّيِّ، وَنَفْسُ الْمُكَلَّفِ أَيْضًا دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْحَقِّ؛ إِذْ لَيْسَ لَهُ التَّسْلِيطُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ بِالْإِتْلَافِ. فَإِذَا؛ الْعَادِيَّاتُ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ اللَّهِ مِنْ وَجْهَيْن: أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ الْكُلِّيِّ الدَّاخِلِ تَحْتَ الضَّرُورِيَّاتِ. وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ التَّفْصِيلِيِّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ بَيْنَ الْخَلْقِ، وَإِجْرَاءُ الْمَصْلَحَةِ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ؛ فَصَارَ الْجَمِيعُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ. وَفِيهَا أَيْضًا حَقٌّ لِلْعَبْدِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْعَادِيَّاتُ: أَحَدُهُمَا: جِهَةُ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُجَازًى عَلَيْهِ بِالنَّعِيمِ، مُوَقًّى بِسَبَبِهِ عَذَابَ الْجَحِيمِ. وَالثَّانِي: جِهَةُ أَخْذِهِ لِلنِّعْمَةِ عَلَى أَقْصَى كَمَالِهَا فِيمَا يَلِيقُ بِالدُّنْيَا، لَكِنْ بِحَسَبِهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الْأَعْرَاف: 32]، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
|